الصادق الرزيقي

مسؤولية مناهضة الحرب..


> مشهد مؤثر يحدث في بلدنا لأول مرة تقريباً، ومكانه جامعة الخرطوم بكل عراقتها وتاريخها ودورها العظيم، ونظمه معهد أبحاث السلام التابع للجامعة وعلى رأسه الدكتور محمد محجوب هرون، تجمع عدد كبير من مبدعي بلادنا تقاطروا من كل اتجاه وطيف فكري وإبداعي وسياسي، موسيقيون ومسرحيون ومطربون وصحافيون وتشكيلون، في واحدة من أكبر التظاهرات النوعية التي شهدها السودان مؤخراً، تنتظم من أجل موضوع في غاية الأهمية والسمو لمناهضة ورفض فكرة الحرب والقتال والبحث عن السلام وصناعته وتثبيته على الأرض.
> بدأت الفعاليات بافتتاح المنتدى الدولي للسلام في السودان وهو المنشط الرئيس للمعهد في إطار برامجه وفعالياته بقاعة الشارقة صباح أمس، بحضور مشاركين من خارج البلاد وخبراء ومهتمين من الداخل. خاطبها السيد وزير الخارجية، ثم انتظم الجميع في وقفة كبرى ضد الحرب وداعمة للسلام، وهي وقفة رمزية لها معنى كبير وقيمة موضوعية تستحق أن ينظر إلى بُعدها الذي تخلفه في الحياة العامة ودلالاتها، وهذا هو الدور المطلوب من أهل الإبداع والفن والفكر. فلو تحركت هذه القطاعات منذ الوهلة الأولى لاندلاع الحروبات في مناطقها الساخنة اليوم، لكان قد حدث تحول كبير، وكان يمكن أن تم احتواء آثارها الأخرى التي ضربت العصب الحي في نسيج المجتمع وأوهنت عراه. فالقوى الحية في المجتمع لو اضطلعت بدورها وانتزعت فرصتها وأطلقت مبادراتها وتم تحريكها، سيكون لها حتماً ردود أفعال قوية ستنعكس على الأوضاع وستوفر الحلول المطلوبة وتقود الجميع إلى بر الآمان.
> لماذا يناهض الجميع الحرب وهم أكثر حرصاً من أي وقت مضى على نبذها..؟ ولماذا عافتها النفوس ويفر من جربها الأصحاء والعاقلون..؟ لقد دمرت الحرب التي دارت من قبل في جنوب السودان حتى انفصاله والحرب في المنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق وفي دارفور، كل مقومات الحياة في هذه المناطق وأثرت في الاقتصاد الوطني وفي العلاقات الاجتماعية وأفرزت ثقافة حرب ونفور في الوجدان العام لم يسبق أن عاشت بلادنا مثله في كل تاريخها العريض والطويل، وانكسرت دورة الحياة الطبيعية العادية في المناطق التي تعيش ظروف القتال والحرب، وهذا بدوره خلق انقسامات في صفوف المجتمع وأوجد مشكلات أخرى بسبب انتشار السلاح وحمله، وغاصت القبائل في التكوينات الاجتماعية حتى أذنيها في أتون الصراعات القبلية والنزاعات المسلحة وتوالدت ظواهر اجتماعية وثقافية جديدة لم تكن معهودة لدى السودانيين وصار الثمن فادحاً في أي خلاف بين اثنين أو عشيرتين أو مجموعتين أو قبيلتين وجرت أنهار الدماء وسالت تملأ كل مكان.
> كان لابد أن يتم التصدي لهذه الحرب ونبذها ورفضها، فالتدابير والمساعي التي تبذلها الحكومة والسلطة الرسمية، تتمحور في عقد الاتفاقيات وإبرام معاهدات الصلح مع من يحمل السلاح أو حسم الصراعات القبلية، لكن جعل الحرب جيفة نتنة غير مقبولة ومهضومة، منكرة فعل لا يقدر عليه إلا أهل الفكر والإبداع والفنون، فهم من يرتب الوجدان الوطني وملأ فراغاته ويضفي عليه القيم الراقية ويربط شتات الوطن الممزق. هذا الدور الذي كان مفقوداً، يجيء الآن بقوة بعد أن استشعر المبدعون واجباتهم الوطنية وانتبهوا للأهمية البالغة لإبداعاتهم وفنونهم وكتاباتهم وأعمالهم الدرامية والموسيقية ودورها في رسم معالم الطريق وتحفيز الشعور الوطني الخلاق ليبتكر وسائل تعايشه ونسيانه الدموع الهاطلة والدماء السائلة.
> كثير من المنتديات تنعقد وتنفض والمؤتمرات تلتئم وتتفرق وهناك أرتالاً من الحديث النظري والمبادرات الفردية والجماعية، لكن لم يتوافق السودانيون على حركة جماعية يقوم بها أهل الإبداع من أجل السلام وصناعته وضد الحرب ومناهضتها وركلها إلى قاع التاريخ..
> فعاليات البرنامج الذي ينظمه معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم، مزجت ما بين التفكير العميق من خلال أوراق المنتدى وحواراته ونقاشات، وبين الغناء والموسيقى والتشكيل والوقفات الرمزية. ولو لم يفعل هذا البرنامج شيئاً فإنه يكون قد وجه رسالته للجميع وجعل المبدعين في الواجهة ووضع الكرة في ملعبهم الفسيح..