الهندي عز الدين

عذراً .. سعادة سفير بريطانيا !


لم يكن السيد وكيل وزارة الخارجية مضطراً لاستدعاء سفير بريطانيا الجديد لدى السودان المستر “مايكل آرون” بسبب تعليق عابر على قضية ديون السودان، فالرجل خلافاً لسابقيه بدا في حواره مع (المجهر) وبسببه تم استدعاؤه، أكثر مرونة وتعاطفاً مع السودان، ومنتقداً لحركات التمرد في دارفور، بل إنه قال ما لم تقله الحكومة: (لم يعد هناك وجود للحركات المسلحة في دارفور إلا في أعالي جبل مرة) !!
والسفير “آرون” رحب بالسودان (المصنف إرهابياً عند أمريكا) عضواً محترماً في رابطة (الكومنولث)، وهذا ما لم نسمعه من أي سفير بريطاني سابق !!
ألم يكن أولى أن يتم استدعاء السفير الأمريكي بالخرطوم على خلفية تصريحات المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية الذي احتج باسم حكومته على استقبال (الصين) للرئيس “البشير”، وقبلها طالب حكومة جنوب أفريقيا بالالتزام بميثاق محكمة الجنايات الدولية والقبض على رئيس جمهورية السودان أثناء مشاركته في أعمال القمة الأفريقية الأخيرة بجوهانسبرج !!
من هو الأولى بالاستدعاء الذي يسيء لرئيس الدولة ويدعو لتوقيفه عياناً بياناً، ويهيج ويحرض عليه الدول، أم الذي يحدثك بصراحة عن منهج بريطانيا والاتحاد الأوروبي في موضوع (إعفاء الديون)، وأن الأمر مرتبط بتقديرات الصرف على العمل العسكري والأمني الذي يرد في ميزانية الدولة المطالبة بالإعفاء ؟!
أنا لا أفهم وكثيرون مثلي في بلادنا كيف يفكر السادة سفراؤنا المسؤولون عن علاقاتنا الخارجية في كافة الملفات، فرغم ثقافاتهم ومعارفهم وتجاربهم الطويلة تشعر في أحيان كثيرة، أنهم مجرد (أفندية) يتحدثون الإنجليزية وقليلاً من الفرنسية، لكنهم يخطئون غالباً في حق الوطن، ولا يقدمون الاستشارة الصحيحة لقيادة الدولة، حتى وإن أمر مسؤول رفيع باستدعاء السفير لحظة انفعال، فالواجب تبصير القيادة لا مجاراتها في ما ليس لها علم بتفاصيله !
في رأيي .. وباطلاعي على الحوار المنشور على حلقتين بـ(المجهر)، ومتابعتي لنشاط السيد السفير “آرون”، خلال الفترة القصيرة التي قضاها بيننا منذ تسلمه مهامه رسمياً، ومنه دعوته لرئيسي ناديي (المريخ) و(الهلال) ودعمه المعنوي لهما بمناسبة تأهلهما في البطولة الأفريقية، وهو ما لم تفعله جهات حكومية (سودانية) مسؤولة عن الشباب والرياضة، في رأيي أن وزارة الخارجية تسرعت واستدعت السفير الخطأ في الزمن الخطأ، وأحبطت دبلوماسياً أجنبياً قادماً لتوه من أهم دولة غربية تربطنا بها علاقات تأريخية عميقة، ورغم سنوات الاستعمار وآثاره النفسية، إلا أن آثار (الإنجليز) التنموية ما زالت شامخة في بلادنا، فهم الذين أهدونا مشروع الجزيرة أكبر مشروع زراعي مروي في العالم منذ عام 1925، وجامعة الخرطوم أحد أقدم جامعات أفريقيا وأعرقها، والسكة حديد التي دمرناها بأيدينا، وجسري النيل الأبيض والأزرق في الخرطوم وما يزالان يعملان وقد بلغ عمرهما (مائة عام) ورغم ذلك لم تقو عليهما الفئران كما قويت على جسر (المنشية) الذي لم يتجاوز سبعة أعوام، وأهدانا السادة الإنجليز مباني الوزارات العتيقة والبلديات والقصر الجمهوري، ونظام الخدمة المدنية الذي مزقنا أيضاً لوائحه، وكسرنا قواعده .
و(الإنجليز) هم الذين علموا كل الأجيال السابقة التي أدارت وتدير السودان الآن من حكام إلى موظفين وتجار، وهم الذين أهلوا كل كبار أطباء السودان وأساتذة الجامعات ورموز الإدارة والاقتصاد في البلد .
لو كان لمسؤولي العمل الدبلوماسي في بلادنا رؤية إستراتيجية عميقة، لما ضيعوا زمن وزراء الخارجية المتعاقبين في اللهث وراء تطبيع العلاقات مع أمريكا، وبحثوا عن مظلة أخرى للحماية في مواجهة العقوبات الأمريكية، فإن لم تكن “روسيا” التي تحمي بقوة النظام الظالم الغاشم في “سوريا” الذي شرد شعبه بمئات الآلاف لاجئين في أرجاء الدنيا فتسيء لهم دول الجوار قبل أوربا، فلتكن مظلتنا “بريطانيا” تحت غطاء (الكومنولث) باعتبار السودان أحد رعاياها وحلفائها .. ما المانع ؟
إنني أدعو راجياً السيد وزير الخارجية البروف العالم “إبراهيم غندور” إلى الاهتمام الخاص بالسفير البريطاني الجديد “آرون” وتمييزه في الدعوات والمقابلات، وتخصيص وضع خاص له دون بقية السفراء الغربيين، فبريطانيا في قلوب السودانيين وعقولهم المختلفة، و”لندن” ما زالت مضرب مثلهم، وليس “واشنطن” ولا “طوكيو” ولا “بروكسل” حاضرة الاتحاد الأوروبي.


تعليق واحد