جعفر عباس

سواها فينا بيرد


قبل 89 سنة وبالتحديد في اليوم السادس والعشرين من يناير من عام 1926م، قام البريطاني المبهدل جون بيرد بدعوة علية القوم إلى شقة بائسة في حي سوهو في لندن (لم تكن الدعوة تتعلق بالشيء الذي في بالكم يا من لا تعرفون عن سوهو إلا أضواءه الحمراء!!!).. شاهد ضيوف بيرد مجموعة من الأسلاك تلتف حول قطع من الكرتون وآنية الطبخ القديمة، وفتافيت زجاج من مصابيح إضاءة الشوارع، وعلى سطح لامع فوجئوا بصورهم تتحرك أمامهم تقلد كل حركة يأتون بها وهكذا كانت تلك المجموعة أول من شاهد ذلك «البتاع» الذي أصبح اسمه «تلفزيون».
أذكر أن صحيفة الرأي العام الكويتية نقلت أن وزيراً كويتياً قبل عام 2003 في رد فعله إزاء ما تردد عن تدهور صحة الرئيس العراقي صدام حسين قال: الله لا يبارك فيه دنيا ولا آخره، وكلما شاهدت برامج القنوات التلفزيونية العربية صحت: الله لا يبارك في الخواجة بيرد، وابن عمه جريهام (وليس جراهام) بيل وماركوني، اللذين اخترعا التلفون، (كان لي زميل عمل يمني هو أيضاً جاري في السكن، في عصر ما قبل الموبايل كثيراً ما نتبادل مكالمة هاتفية من صنف واحد: الله يخليك اتصل بزوجتك كي تروح بيتنا وتقول للمدام تحط سماعة التلفون كي أتمكن من محادثتها… يعني بسبب بيل وماركوني بات الواحد منا يحتاج إلى واسطة كي يكلم زوجته).
ولكن كل ذلك كوم والتلفزيون كوم بل كوم ضخم من التفاهات والقاذورات الأكثر ضرراً من اليورانيوم المستنفد أو المنضّب الذي تقول الصحف إنه تسبب في موجة من السرطانات في العراق والبلقان! ولو كان التلفزيون رجلاً لقتلته وشربت من دمه، على الرغم من أنني ظللت أعتاش من العمل في التلفزيون طوال أكثر من عقدين من الزمان – وكانت أمتع فترة عمل بالتلفزيون تلك التي عملت خلالها في الرقابة على البرامج في تلفزيون قطر، وكنت مثل القاضي الإيراني الشهير آية الله خلخالي الذي اشتهر في بدايات الثورة الإيرانية بأحكامه القاسية على من اعتبرهم خصوم الثورة مما أدى إلى إزاحته من القضاء.
كنت أصدر أحكاما بالإعدام على معظم البرامج والمسلسلات التي تمر بي، حتى قال لي مدير التلفزيون ذات مرة مداعباً: أيش رأيك أن تتولى أنت إعداد وإنتاج وإخراج البرامج والمسلسلات كي يكون عندنا مادة صالحة للبث، واكتشف الجماعة لاحقاً أنني عدوّ للتلفزيون من حيث المبدأ فكلفوني بمراقبة برامج الأطفال، وكان ذلك من حسن حظي لأنني أحب أفلام الكرتون ولم تكن بينها مادة عربية المنشأ كي تعكنن عليّ مزاجي وأعصابي!..
ولكن المصيبة الآن هي أن التلفزيون والتلفون تحالفا كي يسلباني قواي العقلية المحدودة أصلاً، فكل من خب (بالخاء) ودب جلس أمام الكاميرا واضعاً أمامه التلفون مبتسماً في بلاهة يحسده عليها هبنقة: ألو مين معي؟ ألو… ألو… يظهر ضاع الخط!! فأصيح بأعلى صوتي: ياريت حظك (بالظاء) أيضاً يضيع ويطيح! أما الذي يفرس كرشي ويبط كبدي ويفقع مرارتي فهو المشاهدون الذين يتصلون بمثل تلك البرامج الركيكة: ألو… ممكن أشارك؟ تأمل بلاهة هذا السؤال الذي يتكرر في جميع برامج البث المباشر: التلفون موضوع أساساً كي يشارك الجمهور، ولا يتم فتح الخط إلا للسماح للمتصل بالمشاركة ولكن سيادته – أو سيادتها – لا بد أن تطرح ذلك السؤال البليد! ولو طولتم بالكم معي أستطيع أن أفش غلّي في التلفزيون على مدى سنة كاملة، وسامحوني إذا نهشت لحم عزيز لديكم بين الحين والآخر!!

jafabbas19@gmail.com