عبد الجليل سليمان

“300” مصنع في خبر كان


معلوم، أن خبر “كان” هو اسم في موقع الخبر لمبتدأ دخلت عليه كان أو إحدى أخواتها: “كان الطعام باردًا”، وفي أحيان، تُحذف كان واسمها ويبقى الخبر وذلك بعد “إن ولو”، أداتي الشرط الشهيرتين، و”إن” لا تتعلق إلا بمعدوم مستقبل، أما “لو” فتتصل بالماضي، وبالماضي فقط.
وخبر كان في الحالة السودانية ذات الصلة بالتنمية اسم ابتدره الاستعمار و(جاب خبره) السياسيون الوطنيون الذين تتالوا وتكالبوا وتتابعوا على دست الحكم مُذاك وإلى الآن، فأصبح الطعام بارداً. وحذفت كل المصانع، السكك الحديدية، المشاريع الزراعية، المدنية والتحضر.
تصوروا، لا أخبار باقية غير التي تدمع العين وتخِز القلب، وتحيل أفق البلاد ظلاماً دامساً، العالم كله يبني أخباره القادمة على (كان)، ونحن نحذفها ولا نُبقي على الخبر، فنصير كما لو دخلت علينا أداة الشرط “إن”، التي لا تتعلق إلا بمعدوم مستقبل، وأخبارنا التي تأتي من (كان) الماضي، لا تجد حاضراً يحملها إلى المستقبل فتموت.
الأخبار تقتل، لا شك. وحين يكشف معتمد شرق الجزيرة عن توقف (300) مصنع من جملة (330)، من مصانع منطقة الباقير (الصناعية العريقة)، تموت ” لو” الماضي الشرطية، وتدفن مع (إن) ومعاً يلحقان بخبر كان.
نحاول أن نقدّم ثمناً للمستقبل، ثمناً قليلاً، قليلاً جداً حتى أنه يذكرني بتفسير عبارة “مُد من غالب قوت أهل البلد”، حيث يقول الفقهاء (والمد هو مقدار قبضة اليد)، والثمن الذي بمقدار قبضة اليد هو استعادة الدولة من سارقيها الكبار، وهم معروفون (سيماهم في وجوههم).
سياسيون في الغالب، يهرجون بحب الوطن، والتضحية من أجله، والذود عنه، وينشدون الأغنيات الوطنية ويذرفون الدمع على مقاطعها ودوزناتها، ولكنهم في واقع الأمر، من دمر البلاد وأحالها فساداً ضارياً وضارباً في عمق ثقافتها، أضحى الفساد مبرراً بالواقع المعيشي المتردي (ياخي خليهم ياكلوا عيش). هم في الحقيقة يبتلعون مقدرات البلاد، وينهبون ثرواتها، ثم يصرخون: (الوطن، الوطن، الوطن).
ما كان من مبرر بحجم قبضة يد، حتى تتوقف الحياة في بلاد تجري من تحتها الأنهار. لا مصانع ولا مزراع، ولا بنية تحتية، ولا طاقات بشرية خلاقة (التعليم دمر تدميراً مريعاً). فما الحل؟
قيل: كما تفتحون أكفكم للدعاء، افتحوها ثم اقبضوا على الحلول التي بحجم مد من غالب طعام أهل البلد. ردوا الخدمة العامة، ردوا السكة حديد، ردوا المصانع، ردوا الطاقات الخلاقة على طريقة (الإنسان المناسب في المكان المناسب)، ردوا (المسروقات) كلها، لكن كيف؟
وكيف هذه، ثمنها ليس باهظاً جداً، فقط إحراق بعض الأيدي حتى تتفحم، إحراقها بثقاب الشفافية، الديمقراطية، الدولة المدنية، المحاسبية الصارمة، الحرب على الفساد دونما هوادة.
ثم، ستدور ماكينات مصانع الباقير، وسيخضر مشروع الجزيرة،، أو.. فليذهب الوطن في جحيم (خبر كان).