منوعات

قصة رحيل عامل مصري في السودان أبكت جميع من عرفه


رأينا وجهه عندما أزاح عامل مشرحة مستشفى أم درمان عنه الغطاء الأبيض الذي يكسو جسده المسجى على نقالة في وسط المشرحة، لم يدخلوه الثلاجة بعد، عندها أيقنا أن المحادثة الهاتفية التي أتت من صاحب المنزل عن وفاته في حافلة وهو في طريقة يرسم له كعهده لوحات فنية على جدران منزله ويزينها.. هي الحقيقة.. كنا قد تركنا ما بأيدينا وهرولنا نحو المشرحة في شك فيما هوتفنا به.. أحقيقة مات محمد إبراهيم النقاش المصري؟ كان صاحب المنزل هو أول من أخطره رجل الشرطة عندما رأى مجموعة من المواطنين يتجمهرون حول الحافلة..

فوجد رقمه هو آخر محادثة في جواله ليعرف أصل وحقيقة هذا الرجل الذي تحداه الموت في عنفوان رجولته ومنعه من أن يترجل عن الحافلة ليصل إلى مقصده، فظل جالساً على مقعده في آخر الحافلة يحني رقبته ويسند رأسه على شباك الحافلة لا يعلم أنه وصل المحطة الأخيرة للحافلة وللحياة.. نزل ما تبقى من الركاب إلا هو فلفت إليه الانتباه لقد إمتدت إليه يد ملك الموت عندما كان كغيره من الركاب يفكر فيما سينجزه في هذا اليوم.. إمتدت إليه كما تمتد يد لتنتقي القطعة التي تريد من طبق وجبة طعام.. فمضغه الموت كأن لم يكن في الحياة.
يرقد في المشرحة.. لم يختر لنفسه هذا المكان ليرقد فيه.. لكنهم أتوا به بعد أن أعلن طبيب المستشفى المناوب وفاته.. ووصى بأن يذهب جثمانه للمشرحة التي تقبع في أقصى الركن الجنوبي الغربي لمستشفى أم درمان.. فإذا كان القبر هو المقدمة للدار الأخرى فالمشرحة تنبئك بكآبتها ووحشتها، هذه المقدمة وهي تنزوي بعيداً عن حركة العاملين بالمستشفى وزوار المرضى، يكتنفها الغموض ويحفها ظلام الليل.
يرقد كأنه نائم لم يشعر بحركتنا من حوله ليصحى ويبتسم كعهده عندما نطلبه فيأتي في مواعيده تتدلى من كتفه الشنطة التي يحمل عليها معينات النقاشه ويضع الكاب على رأسه تكسوه هالة من الصمت المعبر عن سعادته وهو يعمل من أجلك. . لا يكثر الحديث لكنه من إبداعه وإتقانه عمله فيقع في نفوس الكل موقع الرضى الكامل فينتابك إحساس قوى إنك مهما قدمت له فإنك مقصر في حقه وتفاجأ بأنه لا يقبل أن تعطيه أكثر من حقه المتواضع ويرفض ذلك رفضاً قاطعاً فيزداد إعجابك به.
خرجنا من المشرحة وأنوفنا تسكنها رائحة الفورملين الطاغية تنازعنا أنفسنا في التمييز بين صمته في الحياة وصمته في الموت.. وهم كبير يشغل بالنا كيف نسرع بإيصال هذا الجثمان الطاهر لأسرته المكلومة فهو تهدئة لنفوسهم الحزينة بقرب الجسد بعد فراق الروح ونوع من العزاء لقلوبهم المفطورة.
لم نر صمته هذا ينكسر إلا في أمسية من أمسيات شهر رمضان المعظم قبل شهرين فقط.. عندما تجمعنا في منزل أحد الذين عرفوه وأحبوه.. انطلق يتحدث في حماس شديد بعد أن تناولنا الوجبة الرمضانية وفي أثناء تناولنا لأكواب القهوة والشاي دار الحديث عن الوضع السياسي الراهن في مصر ونظامه الحاكم.. وكيف يرى هو أن مصر الآن قد تحررت من قيود التبعية والانقياد وما يحكم مصر الآن في عهد الرئيس السيسي هم المصريون بفطرتهم المصرية الذين يحملون هموم الشعب المصري حقيقةً ويسعون لما يتطلع إليه الشعب المصري بكل عزة وكرامة وكبرياء.
بأمر من النيابة وحضور الشرطة ومندوب السفارة المصرية تم كسر باب الغرفة التي يستأجرها وكان يقطن بها وحيداً في حي المعمورة خلال إقامته في السودان تأسره الوحدة ويعمه السكون، تم حصر مقتنياته البسيطة من ملابس وجهاز تلفاز صغير وحاسب آلي وحفنة من العملة السودانية كانت نواة لحلمه وما يسعى إليه وهو يبتعد عن وطنه (شقة صغيرة تأويه وزوجته وإبنتيه الصغيرتين) وكمية من عقاقير طبية بعضها مستعمل وبعضها لم يستعمل بعد أن تنبأ أنه كان يعاني علة صمت عنها.. يا لعظمته.. حتى حساسيته المرهفة التي تمنعه أن يثقل على أحد منعته أن يبوح بعلته حتى لا يؤثر عليك ويحملك معاناة عطفك عليه سلمت الغرفة لصاحبها وحملت مقتنياته ليتم إرسالها لأسرته الصغيرة في مصر.
لم تعلم وزارة الخارجية في مصر في عهد السيسي عندما أصدرت تعليماتها من هناك للسفارة المصرية في السودان بأن تقوم بكل إجراءات تجهيز جثمان الفقيد ودفع قيمته كاملة للمشرحة وكل الرسوم المقررة وتكلفة نقل الجثمان بالطائرة إلى مصر. لم تكن تعلم وزارة الخارجية أو تدري وهي تقرر ذلك بالحديث الذي دار في تلك الأمسية الرمضانية في موقع ما في الخرطوم وحماس الفقيد محمد إبراهيم بخيت وهو يتحدث بإيجابية عن النظام في مصر.
وبنفس الدرجة أثلج صدرونا معرفة القنصلية المصرية لقيمة أبنائها وتمثل ذلك في ما قام به السيد عاطف ربيع الشيخ الذي فاجأنا بما جمع من دعم مالي مقدر لأسرة الفقيد وهم في أمس الحاجة إليه في هذه المرحلة الحرجة من حياتهم.
أقلعت طائرة الخطوط الجوية المصرية من مطار الخرطوم في طريقها للقاهرة تحمل في جوفها بذرة صالحة هي جثمان الفقيد ليزرع في أرض الكنانة التي نبت فيها من قبل لتنبت ثانية يوم البعث العظيم في أبهى وأزهى صورة لا يتخيلها عقل بشر في الحياة لكننا أدركنا بعقولنا أن الله خلق محمد إبراهيم من الصفات ماملك به حب الناس جميعاً فبقى لنا أن ندرك تماماً أن ما سعى له الفقيد في حياته من أجل أسرته ولم يمهله الأجل ليتحقق بمقدور الخالق جلت قدرته أن يكفل أسرته ويبسط عليها رحمته ويغمرها من نعيمه بأروع من روعة محمد إبراهيم بخيت في الحياة.
إنا لله وإنا إليه راجعون
والشكر لقنصل جمهورية مصر العربية
السيد/ وئام سويلم
ولسعادة سفير جمهورية مصر العربية
السيد/ أسامة شلتوت
على دعمهم وجهودهم المقدرة
عمر مصطفى الجاك
يناشد عدد من جيران الفقيد والذين تعاملوا معه الحكومة المصرية بأن تحقق حلم الفقيد بتمليك شقة لأسرته المكلومة .

الخرطوم: عمر المصطفى المكي : أخر لحظة


تعليق واحد

  1. الله يرحمه، ودايما بلاحظ البيكون حنين على البنات تلقى خصاله سمحة وتلقاه أرجل راجل