عبد الجليل سليمان

في سيرة “الرعونة” وملحقاتها


قال الفرزدق: (لولا أَبو مالِكِ المَرْجُوُّ نائِلُه ما كانت البصرةُ الرَّعْناء لي وَطنا)، والرَعْنُ أنف الجبل المتقدّم، والجمع الرُعونُ والرِعانُ، ثم يشبَّه به الجيشُ فيقال: جيشٌ أَرْعَنُ. لكن أرعن وملحقاتها التي بصددها هنا، هي تلك التي أًشتهرت بمثلها كله، إذ سيقت كما يلي (صاحب الحاجة أرعن)، أي مسترخٍ ،أحمق، وأهوج ومضطرب.
وليست ثمة رعونة أكثر من مُجمل الكتابات والأقوال الناشئة في الحيِّز السياسي والثقافي العربي الراهن، و(السوداني) ليس مستثنى منه بطبيعة الحال، بل – للأسف – تابع له لجهة أنه هامشة، يذهب معه حتى إلى الجحيم، دونما تروٍ وتدبر ورعاية للمصلحة العامة.
المُتقصي للخطاب السياسي والثقافي الراهن، يتعثر من توِهِ بمدى الحمق والطيش اللذين يعتريانه، خاصة ذاك المنتج والمَضْخوخ من قبل الساسة، إذ يكشف بوضوحٍ تام عن (رعونة) هائلة، وبالضرورة وهو كذلك، يحوي حمقاً واضطراباً وتناقضاً وعجلة وهرج وهرجلة، ما يجعل أعين وآذان (القارئين والسامعين) أكرمهم الرب تقترب جراءة زلفى إلى الرمد والوقر، وإلاّ فانظروا للمداولات السياسية والثقافية بين الخاطبين العربي واليهودي، حول أحداث القدس الماثلة – كما أشرنا – من قبل، لتقفوا (مباشرة) على معنى (رعونة).
مما يحتاج لاشتغالات وبذل أكبر من أجل إخلائه عن الساحة هو (الخطاب السياسي) لجل الأحزاب السياسية السودانية، ليس لكونه ناشئا ضمن ثقافة المحيط العربي الهارجة والصارخة فحسب، بل لأنه – ارتدّ عنها ونكص – وبالتالي فاقها رعونة وفجوراً (أيضاً)، فما لا يتبناه الخطاب العربي السائد – أو يتبناه بحذر – بغرض المساومات والتسويات يأخذ به السياسيون السودانيون بعزة واقتدار إلى قمة التصورات الاستراتجية لاشتعالتهم السياسية، وفيما يتجاوزه نظراؤهم (المنتجون الحقيقون) له، ويعبرون عليه إلى آفاق أخرى، يتمسك به (ساستنا) وكأنه (كتاب مقدس)، لا باطلاً سياسياً متغيرا ومتحولا بفعل تناسل الأحداث وتغير التحالفات وانقلابات مناخات ومزاجات (الكونية السياسية) التي انتجتها (العولمة).
الآن، تمضي ألمانيا إلى استيعاب المزيد من اللاجئين السوريين، كونهم يتوقعون أن يرفعوا من معدل التنمية خلال السنة المالية الجديدة بأقل من 1%، فيما تعاني دول أخرى من الفاقة والبطالة وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي ترفض استقبال هؤلاء اللاجئين. صحيح أن بعض شعوب وحكومات تلك الدول تخشى من تسرب متطرفين بين ثنايا موجات اللاجئين (المسلمين) الهارعة نحوهم، وهم مُحقون في ذلك وفي ذاكرتهم 11 سبتمبر ومذابح ومحارق داعش. لكن ليس هذا هو السبب الرئيس في رفضهم استقبال اللاجئين، بل لأن مصالحهم الاقتصادية ستتضرر جراء ذلك.
وهنا، توغل الخطابات العربية في هذا الشأن فتنتج شفاهيات مفككة، وهي في المقابل لا تنجز على الأرض أي أعمال مهمة، ونسألهم: لماذا لا تستقبل الدول العربية الثرية اللاجئين السوريين، عوضاً من أن (تنبح) ليل نهار (الغرب الغرب، أمريكا أمريكا، هجمت إسرائيل…). ويا له من خطاب بائس وأرعن، وغير مثمر في واقع الأمر.