جعفر عباس

الثأر يا ولداه


أعجب كيف لا نزال نفكر ونعمل بطريقة القبائل في عصر ما قبل البعثة المحمدية، قبل لحظات فتحت يوتيوب ووجدت عنوانا لشريط فيديو أغراني بمشاهدته، وجلست مشدوهاً أمام الكمبيوتر وأنا أتابع تفاصيل «الكارثة» التي كان يمكن أن تحدث لو قام نفر من المسلمين البريطانيين بتفجير عشر طائرات ركاب، كل واحدة منها تحمل نحو ثلاثمائة شخص.
وكان من الواضح ان محتوى الشريط مفبرك، واكتشفت أنه سيناريو احتمالات أعدته وأنتجته المخابرات البريطانية، في ذكرى أحداث 11 سبتمبر 2001، عندما قام تنظيم القاعدة بتدمير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ليبقى الحادث حيا في الذاكرة وخاصة بعد ظهور داعش التي جعلت منظمة القاعدة تبدو وكأنها بقيادة المهاتما غاندي الذي كان ينبذ العنف حتى ضد المستعمر البريطاني في وطنه الهند.
المخابرات الغربية قد تضحك علينا نحن أهل العالم السفلي المسمى تأدباً بـ «الثالث»، ولكنها لا تضحك على أهلها في بلدانها لأنها تتعرض للمحاسبة والشرشحة والمساءلة، وقد سبق لها أن فبركت حكايات ومؤامرات ولكن يا ما طارت رؤوس بعد انكشاف الحقيقة!
واليوم وبعد مرور 14 سنة على تدمير البرجين في نيويورك تعالوا نتساءل: ماذا كان المكسب من قتل أكثر من 3000 شخص بغض النظر عن ألوان بشرتهم ومعتقداتهم؟ لنجيب عن هذا السؤال دعونا نستعرض بعض وقائع التاريخ المعاصر: اغتيل الرئيس المصري أنور السادات لأنه وقع اتفاقية سلام مع إسرائيل وقام بتطبيع العلاقات معها، ولكن هل أدى موته إلى إلغاء اتفاقية السلام تلك ومن ثم إلى قطيعة بين مصر وإسرائيل؟ ولسنوات ظل ملايين العرب يتمنون لو أن فدائياً ينجح في اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون، ولو مات شارون مقتولاً لهللت الملايين. طيب ظل شارون ميتا من الناحية الطبية لسنوات ثم مات نهائيا، وفقد منصبه وخلفه رجل من طينته اسمه أيهود اولمرت: ماذا ربحنا من إزاحة شارون من السلطة؟ بعبارة أخرى لنفترض أنه مات مقتولاً، هل كان ذلك سيغير من واقع المسألة الفلسطينية شيئاً؟
الاغتيال والقتل من باب أخذ الثأر عادة جاهلية لا تزال تجد من يصفق ويهلل لها، والحمقى فقط من يحسبون أن الاغتيال السياسي يحقق لهم الغايات المنشودة. في عام 2006 شنت إسرائيل حربا ظالمة على لبنان قتل فيها نحو 1300 لبناني، بينما وخلال نفس تلك الفترة التي استغرقتها تلك الحرب قتل نحو 3000 عراقي، وبأيد عراقية، وبعض تلك الأيدي – أو معظمها – مكسوة بشارات عسكرية رسمية.
ولكننا نتعامل مع الموت في العراق بمنطق «معليش.. نكاية بالأمريكان ليدركوا أن غزوهم في العراق لم يجلب للبلاد الأمن والاستقرار»، وخلال وجود العراق تحت الوصاية الأمريكية، كان هناك مقابل كل مائة وخمسين قتيلاً عراقياً هناك قتيل أمريكي واحد، ومع هذا «معليش».. وكأنما ما يهم فقط هو أن يستمر الموت وليس المهم «من يموت».
في السودان بدأت الحرب الأهلية في جنوب السودان عام 1955 وتعاقبت على السلطة حكومات من كل لون وكانت كل واحدة منها تتعهد باستئصال «التمرد والخيانة والعمالة».. وخلال العشرين سنة الأخيرة قتل نحو مليونين من أهل جنوب السودان، وكانوا «مواطنين سودانيين» وكان من واجب الحكومة أن توفر لهم الأمن والزاد.. وبعد نصف قرن من الاحتراب ومصرع نحو سبعة ملايين مدني وعسكري أدركت الحكومة الحالية أن السودان قد يصبح في خبر كان، وعانق مسؤولو الحكومة الكبار نفس المتمردين الخونة العملاء وأسندوا إليهم مناصب قيادية، ثم سمحوا لهم بتكوين دولة خاصة بهم، وكونوا تلك الدولة وانقلبوا على بعضهم البعض ذبحا بالجملة.
لو كان القتل بالجملة أو المفرق/القطاعي يحل مشكلة لكان السودان في طليعة الدول من النواحي الاقتصادية والأمنية.. ولكن تكريس أسلوب التصفية الجسدية جعل «التمرد» هواية وطنية فصار أبناء كل اقليم يحملون السلاح وقريباً قد يعني مصطلح السودنة نفس ما يعنيه مصطلح الصوملة.

jafabbas19@gmail.com