الصادق الرزيقي

مع غندور


> اللقاء مساء أول أمس مع السيد وزير الخارجية البروفيسور إبراهيم غندور، كشف الكثير من خفايا وخبايا السياسة الخارجية وعلاقاتها المتشابكة المعقدة، فالسودان يمر بمرحلة دقيقة ومهمة وخطيرة للغاية في ظل عالم متغير تتوالى أحداثه بقوة وسرعة لا تتيح حتى التقاط الأنفاس اللاهثة وراء مصالحها وتنفيذ استراتيجياتها وتسوية ملفاتها، ولم تعد السياسة الخارجية للدول تسير بنمطها التقليدي السابق، فقد تحول العالم إلى نظامه الدولي الجديد الذي لم تعد فيه هناك قواطع أيديولوجية ومحددات ومعسكرات سياسية تمنع انتهاكات الشرعية والقانون الدولي، وتبدلت الكثير من الأحلاف بل صارت تتوالد كل يوم في أشكال وأنماط مختلفة، تصبح فيها الدول مثل السودان تواجه تحديات كبيرة وضغوطات هائلة باعتبارها دولاً مارقة وعصية على التأديب.
> كان لقاء وزير الخارجية بالنادي الدبلوماسي مساء الجمعة لقاءً صريحاً وطويلاً استمر لأربع ساعات، شاركت فيه رموز العمل الصحفي والإعلامي في البلاد، ولم يكن مؤتمراً صحفياً ولا بغرض النشر، إنما كان حديثاً خاصاً، برع نائب مدير مكتب الوزير الدكتور وليد سيد في تسميته بلقاء «مؤانسة»، أفاض فيه الوزير بمعلومات قيمة ومثيرة، طوف فيها بطريقته المتميزة في السرد والتوصيف والتعريف والحكي، بالدوائر في جوار السودان ثم محيطه القاري في إفريقيا ومجاله العربي ودائرة العالم الإسلامي والعلاقة مع الحلفاء الدوليين والدائرة الأوروبية وأمريكا الجنوبية ثم العلاقة مع الولايات المتحدة.. ثم عرج على القضايا الداخلية التي تؤثر في العلاقات الخارجية مثل الوضع في المنطقتين ودارفور والحوار الوطني وما يُثار حول اللقاء التحضيري وقرار مجلس السلم والأمن الإفريقي الأخير ثم زيارة الرئيس اليوغندي يوري موسفيني للبلاد.
> لمدة تزيد عن الساعة ابتدر غندور حديثه في بداية اللقاء، لم يترك شاردة ولا واردة إلا وتعرض لها في علاقتنا الخارجية، ووضع الصحافة السودانية في صورة ما يجري، كاشفاً معلومات كان الصحافيون والكتاب ورؤساء التحرير في حاجة إليها لتكوين الخلفية المطلوبة لقياس الوقائع التي تجري أمامهم، وللإحاطة بالمشهد كله للمساعدة حتى يتمكنوا من كتابة التحليلات والآراء في قضايا العلاقات الخارجية.
> ورغم حصافته وحرصه المعهود عنه في دلق المعلومات ونثرها، إلا أن البروف غندور قدم وجبة دسمة من معلومات قيمة وتقييمات للموقف الراهن للسودان وما يواجهه في تعاملاته مع العالم ومواقفه المعلنة والاتصالات التي تجري مع أطراف إقليمية ودولية، وجعل المستمعين له يتوفرون على الصورة وإطارها وأبعادها في ملف العمل الخارجي، وشعر الكثير من حضور اللقاء بأن هناك فجوة بالفعل بين الجانبين في إدراك الحقائق كاملة غير منقوصة، فمثل هذه اللقاءات تتاح فيها فرصة واسعة للاطلاع على ما تخفيه الحيطان وما وراء الأبواب المغلقة، فالعمل الدبلوماسي معقد ومستتر وبعيد عن مساقط الأضواء ولواقط الأصوات، تتم من خلاله مراعاة مصالح وتجرى تسويات وتفاهمات لو خرجت للعلن وكشفت من أول وهلة لما صارت العلاقة بين دول العالم المختلفة على ما هي عليه، ومن المهم جداً في بلد مثل السودان أن تطلع الصحافة على حقيقة الأوضاع، ومن حقها على الدولة أن تجد التفسيرات لمسار العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع العالم الخارجي، فوسائل الإعلام باتت تلعب أدواراً كبيرة في الساحة الدولية وصناعة المواقف والأحداث، بل تقدمت أكثر لتكون هي الحلبة التي تحدد القوة الحقيقية للدول والحكومات.
> لكن المهم في هذا اللقاء أن البروف غندور كان مليئاً بالتفاؤل، وهذا طبيعي لأي وزير خارجية في العالم، فالبرغم من حديثه الواضح عن التحديات التي تواجهنا والسالب والموجب في علاقاتنا الدولية، إلا أنه متفائل بالحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، ومطمئن لسلامة موقف السودان في القضايا العربية خاصة الموقف من الحرب ضد الحوثيين في اليمن، والموقف من الأمة الإسلامية ودوره البناء في تسوية الأزمة الليبية وعلاقاته مع إيران، والأهم من كل ذلك الدور المطلوب إفريقياً، وما هو راهن هذه العلاقات والتعاملات مع دول الاتحاد الإفريقي على ضوء القرار الأخير لمجلس الأمن والسلم الإفريقي بخصوص الحوار الوطني والسلام في دارفور والمنطقتين.
> ومن المفيد للغاية التواصل بين الوزارات والجهاز التنفيذي مع الصحافة ووسائل الإعلام، فللصحافة ما تريد معرفته والاستفسار عنه ولها دور وطني تلعبه، وللحكومة حقائق ومواقف وموضوعات تريد التركيز عليها والإعلان والإفصاح عنها والتنسيق مع الإعلام في درجات وجرعات تقديمها للرأي العام المحلي والخارجي، ولهذا كان لقاء غندور مهماً وخطيراً ومثيراً، وهو ديدنه من سنوات في تعاملاته مع الصحافة التي يؤمن بأهميتها والدور الذي تضطلع به.