الطيب مصطفى

ماذا وراء لقاء موسيفيني ومشار في الخرطوم؟!


غادر موسيفيني الخرطوم بعد زيارة خطيرة قابل خلالها رياك مشار زعيم المعارضة الجنوبية الذي كان نائباً لرئيس دولة جنوب السودان قبل الحرب الأهلية التي اشتعلت في تلك الدولة، وأستطيع أن أزعم أن تلك الزيارة للرجلين ولقاءهما في الخرطوم سيكون له ما بعده، وأن الزيارة ستحدث تحولات إستراتيجية في المشهد الجنوبي برمته، ويبدو أن نبوءة (نبي النوير) موندينق بشأن (النويراوي صاحب الفلجة) تسير بقوة نحو التحقق ليصبح الرئيس القادم للجنوب. والغريب أن الرجل مهووس بتلك النبوءة ومصدق لها فقد كان في استقبال عصا نبيهم المزعوم عندما وصلت إلى مطار جوبا قادمة من أحد المتاحف البريطانية، بل إن الأغرب أن سلفاكير يعاني من نفس الوساوس بشأن تلك النبوءة!.
من الواضح أن موسيفيني اقتنع أخيراً أنه قد آن الأوان ليدير ظهره لحليفه القديم سلفاكير ولقبيلة الدينكا بعد أن أدرك أن الرياح ما عادت تهب في أشرعتهم خاصة بعد أن اتضح له أن الجنوب كله تقريباً قد ضاق ذرعاً بهيمنة تلك القبيلة على الدولة الجديدة خاصة بعد التململ الذي بدا خلال الأشهر القليلة الماضية بين القبائل الإستوائية المحادة ليوغندا والتي تؤثر كثيراً على الأمن القومي اليوغندي الذي يعاني من تمرد قبيلة الأشولي التي ينتمي إليها جيش الرب بقيادة جوزيف كوني.
إنه ذات السيناريو القديم حين تراجع جوزيف لاقو عن اتفاقية أدبي أبابا التي وقعها مع نظام الرئيس نميري.
معلوم أن تمرد جنوب السودان اشتعل لأول مرة في الإستوائية عام 1955 قبل أن ينال السودان استقلاله ويغادر الاستعمار الإنجليزي أرض السودان ولم تكن القبيلة الأكبر في جنوب السودان (الدينكا) جزءاً منه، ولذلك لا غرو أن يوقع قائد حركة أنيانيا المتمردة جوزيف لاقو اتفاقية أديس أبابا عام 1972 مع حكومة السودان بالرغم من أنه ينتمي إلى إحدى القبائل الإستوائية الصغيرة (المادي) لكن الرجل سرعان ما غير رأيه بعد تجربة مريرة مع الدينكا الذين هيمنوا على الجنوب مستقلين ثغرة في الاتفاقية وحدت الجنوب كله والذي أصبح تحت هيمنة تلك القبيلة بذات الصورة الحاصلة الآن وكان التاريخ يعيد نفسه فقام لاقو بالإيعاز للرئيس نميري بتعديل الاتفاقية وتقسيم الجنوب إلى ثلاث مديريات كما كان قبل إبرام الاتفاقية.
الغريب في الأمر أن لاقو كان يهمهم بكلام ساخر عقب توقيع اتفاقية نيفاشا وكأنه كان يحاول الإيحاء بما ستؤول إليه الأمور وما أن سيطر الجيش الشعبي المهيمن عليه من قبيلة قرنق وسلفاكير (الدينكا) وأمسك بخناق الجنوب ومارس أبشع عمليات التنكيل بالإستوائيين في عاصمتهم وعاصمة الجنوب (جوبا)، حتى بدا الجنوب يضج من تلك الممارسات، ولكم أصدر سلفاكير من الأوامر لأفراد الجيش الشعبي بأن يكفوا عن التحرش بالفتيات في المقاهي والبارات التي يدخلونها سكارى وغير ذلك كثير !.
كل القبائل الجنوبية ظلت تجأر بالشكوى ومع عجز سلفاكير عن إدارة الدولة والفساد المستشري والفوضى الضاربة الأطناب والصراعات القبلية ثم انفجار الأوضاع واندلاع الحرب الأهلية وتفشي الموت والأمراض الوبائية والمجاعة والنزوح بمئات الآلاف إلى دول الجوار وتناقص كميات البترول التي كانت الدولة الجديدة تعتمد عليها اعتماداً كاملاً جراء اندلاع الحرب في مناطق إنتاجه باتت دولة الجنوب على حافة الانهيار.
لم يتم تزامن زيارة موسيفيني إلى الخرطوم مع زيارة مشار بالصدفة فقد اتضح أن ذلك تم بترتيب مسبق مع الحكومة السودانية خاصة وأن الزيارة أعقبت إبرام اتفاق الصلح بين سلفاكير ومشار برعاية وضغط الاتحاد الأفريقي أو قل دول منظمة اللإيقاد الفريقية والذي لم يوقعه سلفاكير إلا بعد تلكؤ وتردد طويل بعد ضغط كثيف من أمريكا والفارقة ذلك أنه يعلم أن الاتفاق سيحدث انقلاباً استراتيجياً في مستقبل الجنوب ويضعف من دوره في مستقبل تلك الدولة.
لقاء مشار بموسيفيني بلا شك له ما بعده في مستقبل جنوب السودان، ويدشن بداية قطيعة بين موسيفينى وسلفاكير. ومعلوم أن موسيفيني كان هو الحاكم الفعلي لجنوب السودان الذي لولا جنوده وسلاحه وطيرانه لما صمد سلفاكير أمام التمردات التي اجتاحت الجنوب.
لم يحدث التحول الجذري في موقف موسيفيني إلا (للشديد القوي)، فالرجل اضطر إلى ذلك جراء الاستنزاف الذي عانت منه قواته في حرب الجنوب، والضغط والتململ الداخلي والمطالب بوقف ذلك النزيف ثم الخوف من انعكاسات التدخل اليوغندي على أمن يوغندا، سيما وأن الإستوائية التي بدأت تتمرد تحادد يوغندا ومن شأن أي تحالف بين قبائل الأشولي الحدودية المتمردة بقيادة جوزيف كوني والاستوائيين ان يشكل تهديدا او ازعاجا لموسيفيني.
لا شك ان الجبهة الثورية السودانية ستكون الخاسر الأكبر من أي تحولات إستراتيجية كتلك التي نتحدث عنها الآن، فذلك مما يزيد من أوجاعها سيما وأنها عانت من هزائم منكرة في ميدان القتال خاصة حركة العدل والمساواة التي كسر ظهرها تماماً في المعارك الأخيرة ومن شأن الاتفاق بين موسيفيني ومشار المعضد من موسيفيني أن ينهي أكبر مورد لتسليحها كما أن الخلافات العاصفة حول قيادة الجبهة الثورية تلقي بظلالها على أوضاع الحركات المسلحة سواء في دارفور أو قطاع الشمال، ولم تأت موافقة الجبهة الثورية على وقف العدائيات لمدة ستة أشهر من فراغ .
هذا كله سيكون له تأثير كبير على الأوضاع السياسية في السودان، وأرجو ألا يزيد من تصلب مواقف الحكومة في ما يتعلق بمسار التفاوض وهذا حديث يطول.