الطيب مصطفى

ديل أهلي (3)


كنا في مقال الأمس قد واصلنا الحديث عن تفرد الإنسان السوداني بخصائص يتميز بها دون العالمين على خلفية ما قام به السودانيون حين أخلوا خيامهم للمصابين في حادث الجمرات بمشعر منى مما نال استحسان المسؤولين والشعب السعودي، وضربنا أمثلة ببعض ما تعتبره الشعوب الأخرى غريباً مثل قطع الطريق ليس (للهمبتة) والنهب وإنما لإكرام عابري السبيل وإطعامهم، وإذا كانت الشعوب الأخرى تعترف للسودانيين بالخلق الرفيع وبقيم الشهامة والكرم فإن ذلك شأن قديم.
فقد كتب الإعلامي السعودي الكبير منصور الخضيري أنه تأكد بعد استقصاء أن (أبيار علي) في المدينة المنورة ليست للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، إنما للسلطان السوداني علي دينار، وتساءل الرجل مستغرباً: (لماذا تسكتون على هذا التاريخ)؟!
بل إن بروف عبد الله علي إبراهيم أورد ما وثقه الأستاذ بابكر بدري في كتابه (تاريخ حياتي) عن مكانة السودانيين قديماً لدى أهل الحجاز موضحاً أن عرب الحجاز كانوا يتكففون السودانيين ويسمونهم بأبناء العباس، وكانوا يتفانون في خدمتهم، وكان أهل المدينة يستقبلون السودانيين بالأهازيج والرجاءات (يا أبناء العباس اعطوا الناس) وكان السودانيون يغدقون العطايا على أهل المدينة!
رغم كل هذه الأمجاد قديماً وحديثاً والتي تحدث عن نفسها فإني أقول إنني لم اقصد باستشهاداتي هذه أن (نقدس) الشخصية السودانية ونعتبرها مثالاً للإنسان الكامل.. حاشا وكلا.. إنما قصدت أن نرسخ لدى الإنسان السوداني الثقة والاعتزاز بالنفس والقناعة بأنه جدير بالاحترام وأنه يتميز على غيره من الشعوب في كل أو معظم القيم العليا التي حض عليها ديننا الكريم وكل الأعراف الفاضلة منذ قديم الزمان في كل الشعوب والحضارات، فعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم على زوجه خديجة بنت خويلد فزعاً مرعوباً بعد أن أتاه جبريل في غار حراء حاملاً البلاغ بتكليفه بحمل الرسالة قالت له.. (كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الدهر).
هذه هي مكارم الأخلاق التي لا جدال حولها ولا خلاف في جميع الأعراف والشرائع .. بالله عليكم أي هذه القيم لا تتوافر في الشخصية السودانية التي أبرزنا مواصفاتها من خلال الأمثلة الحية التي استشهدنا بها للسلوك الجماعي والفردي للسودانيين في مناسبات مختلفة، والتي تثبت رسوخ تلك القيم وثباتها في إنسان السودان؟!
مما دعاني للاستفاضة في الحديث عن تميز الإنسان السوداني بصفات وقيم عليا لا يجارى فيها أن بعض المنهزمين المنكسرين نفسياً ما انفكوا يسيئون إلى سودانيتهم وإلى بلادهم واصفينها بأقذع الصفات متناسين أنهم بذلك يسيئون إلى أنفسهم ولو نظروا حولهم لرأوا كيف لا يرضى المصري كلمة مهما صغرت تسيء إلى بلاده التي يجمع أبناء مصر على حبها معتبرينها أم الدنيا.. قبل أشهر قليلة قرع رويبضة من أبناء السودان في عدد كبير من مواقع التواصل الاجتماعي بني شعبه متهماً إياهم بأنهم يحتفون بأي كلمة تقال في حقهم بل إنهم يتكلفون سلوكاً (تمثيلياً) يستدرون به عطف الآخرين جراء عقدة ترسخت لديهم .. تقريع وجلد للذات يثير الغثيان من إنسان مريض ومليء بالعقد النفسية التي يحاول أن يسقطها على الشعب السوداني، ولو نظر بعين الرضا متأملاً في سلوك أبناء السودان في الداخل ممن يقطعون الطريق لإطعام ابن السبيل لأدرك أنه ينطوي على هزيمة وعقدة نفسية تؤرق مضجعه وتجعله يهرف بما لا يعرف ويهذي كالذي يتخبطه الشيطان من المس.
أرجو ألا أنسى وأنا أتأمل في تفرد أبناء السودان بقيم لا تشاركهم فيها أو تشبههم شعوب الدنيا أن أفرد شيئاً مما يتحلى به السودانيون في دول الاغتراب من صفات هي جزء من القيم التي ظللنا ندندن حولها ونتغزل لأتحدث عن متانة العلاقات الاجتماعية بين السودانيين.
كان قدوم الطائرة السودانية أيام اغترابنا (يوم عذاب وتعب) لموظفي الاستعلامات في مطار أبوظبي وكل مطارات الإمارات مثل مطار دبي لكثرة الاتصالات من أفراد الجالية عن موعد وصول وإقلاع الطائرات القادمة من والمغادرة إلى السودان، وكان المطار يكتظ بالمستقبلين والمودعين والطائرات تئن بالوزن الزائد فتضطر لأن تحيل بعض العفش الزائد (للكارقو) ذلك أن السوداني لم يكن يكسي ويحسن إلى أسرته الصغيرة إنما يشمل عطاؤه الأهل والجيران وربما الحلة كلها أو بعضها.
لقد حمل المغتربون ولا يزالون عبء السودان وشعبه في سنوات الضيق والمسغبة وأسهموا بنصيب الأسد في سد (فرقة) تراجع الاقتصاد السوداني منذ سبعينات القرن الماضي بما لم يفعله شعب آخر، وكان ينبغي للحكومات المتعاقبة أن تقابل ذلك الإحسان الذي تحمله المغتربون لنجدة وإغاثة أهليهم في الداخل بتعامل يكافئ ذلك العطاء الثر خاصة من خلال إيلاء تعليم أبناء المغتربين اهتماماً أكبر حتى يتلقوا الجرعة المطلوبة من تلك القيم التي لا يمكن التشبع بها إلا من داخل الحاضنة الوطنية والشعبية التي أنشأت تلك الشخصية السودانية المتفردة وزرعت فيها تلك الخصائص النادرة، والحديث يطول في هذا الجانب.


‫4 تعليقات

  1. يقول فلوبير الكاتب والاديب وهو يتحدث عن رواية الخبز الحافى ل محمد شكرى الذى استطاع التعبير متحررا من كل ضابط اخلاقي و تاريخي او نفسي. .
    يقول فلوبير :على الكتابة ان تقود الى الحقبقة فاذا كانت الكتابة هى الحقيقة بعينها كالخبز الحافى فهى الحقيقةوالكتابةالتى للوصول لها وقرآتها.

  2. اهل المدينة كانوا يسمونهم ابناء العباس … ( اعتقد كان قصدك يسمونهم ابناء جعل ) …

  3. الشخصيه السودانيه لو تركت كل هذه الصفات النبيله واتصفت بالشخصيه العامله الهميمه كان افضل
    بلد يملك كل هذه الثروات ويمد يده للغير ينتظر السعوديه والامارات اى عز واى فخر
    سمعتها باذنى من كثير من الخليجيين عندما يتزمرون من اوضاعهم ويشتكون نحن لسنا فى السودان لماذا يحدث لنا هذا
    لماذا تنظر الى نصف الكوب فقط
    شاهدتها وعايشتها هنا فى الخليج السودانى يفتقد للهمه والقدره على الانجاز واختلاق الاعذار وتاجيل كل شى للغد باعتبار ان اليوم انتهى.
    مالم نزرع فى السودانى حب العمل والقدرة على الانتاج سيظل هذا حالنا ننتظر الاشاده من صحفى نكره حليجى