عبد الجليل سليمان

قبل الزلزلة


مما لا شك فيه، ورغم ما آلت إليه الأوضاع أعقابها فإن الثورات العربية المسماة (الربيع العربي)، أنجزت أموراً مهمة على المستويين الفكري والثقافي وأرست أدباً سياسياً جديداً (على المستوى العربي) طبعاً، في التعاطي مع من يسمونهم بالزعماء – كما أخبرت من قبل – هؤلاء الزعماء السياسيون الذين أنجزهم المستعمر خُلفاء له، قهروا الشعوب وعبثوا بمقدرات بلدانهم ورهنوها ملك أيمانهم وزجوا بها في معارك خاسرة تحت عناوين كثيرة، (أعرضها) وأخسؤها ما يسمى بالوطنية والقومية، وهما عنوانان مارس تحتهما هؤلاء كل ما لا يخطر بقلب وعقل بشر أو(شيطان)، خاضوا (تحتهما وفوقهما) حروباً ضد جيرانهم، اضطهدوا تحتهما الأقليات وقهروا الشعوب، وسرقوا المقدرات، ودمروا البينات الأساسية والخدمية من تعليم وصحة، وزجوا بالمناوئين لهم السجون وحشروهم في المعتقلات.
نشروا الفساد والرشوة والاختلاس والمحسوبية والعنصرية وكل ما هو بغيض، ودمروا الخدمة المدنية، وكانوا كلما اقترب رحليهم يرفعون الشعارات القومية والدينية فيهللون ويكبرون ويصرخون في الشعوب أن التفوا حولنا لحماية (بيضة الدين) من المتربصين من الكفرة والزنادقة والأعداء والخونة.
لكن الثورات العربية رغم أنها (اختُلست) الآن، لكن لا تزال بعض ارتداداتها تصلح لابتدار ثورات أخرى، ربما أكثر هدوءاً وأطول أمداً، ثورات إصلاحية (إجبارية)، فطالما انكسر الخوف من التماس بالحاكم المقدس أو زعيم الحزب أو الطائفة الذي لا يأتيه باطل من بيديه ولا من خلفه، فإن هؤلاء جميعهم مجبورون على التخلي عن قداستهم تلك، والرضوخ لأحكام الواقع الماثل، والواقع يقول بالديمقراطية والحرية ومحاربة الفساد والاستبداد والتنمية المتوازنة، والدولة المدنية، كما يقول بتعريف جديد للوطنية والمواطنة يأخذ بتلابيب المفاهيم القديمة البالية ويرمي بها في (مزبلة التاريخ) كما يقولون.
بطبيعة الحال، وبما آل إليه المآل، فإنه في السنوات القادمة (القليلة جداً) لن يكون بمقدور سياسي أو حاكم واحد مهما برع في الاحتيال على الشعوب أن يهيل على نفسه صفة القداسة كما كان يفعل (عبد الناصر، الأسد الأب، القذافي، صدام، آية الله الخميني)، وكل الملوك والأباطرة العرب والأفارقة الأحياء منهم والأموات.
لن يفلح صاحب الكاريزما الفردّية مهما كان فذاً ومخادعاً في أن يتحول إلى (مقدس)، ولن تفلح القداسة في جرف الظاهرة الجماهيريّة إلى صفها كالقطيع كما كانت تفعل وكما لا يزال بعضها يشتغل هكذا حتى الآن.
الأجيال الراهنة، وبالضرورة القادمة، أجيال لا تمتلك آذانها حساسية الاستماع إلى الأكاذيب والأوهام، وليس لدى قلوبها استعداد بأن تنبض و(تدق) هياماً وعشقاً لرجل واحد وحزب واحد، وربما لن يكون لديها ما يجعلها تتعلق بالانتماء لوطن واحد.. أليس (أوباما) من أصل كيني؟، أليس الرئيس الأرجنتيني الأسبق كارلوس منعم من أصل سوري؟، أليس الرئيس الفرنسي السابق من أصل مجري يهودي؟، وفي الثلاثينيات كان اللبناني إلياس أنكايسي، رئيساً للمكسيك، كما كان أنطونيو السقا رئيساً للسلفادور، وفي السبعينيات ترأس كولمبيا اللبناني خوليو سمير طربية.
ثمة أمر صغير، سيكرهه كثيرون الآن، لكنني أراهن على أنهم سيحتفون به قريباً، وهو إعلان (موت المفاهيم السابقة)، وتشييعها إلى مثواها الأخير، لذلك علينا أن نحيي أنفسنا بالمفاهيم الجديدة قبل الزلزلة المجلجلة القادمة إلينا (رضينا أم أبينا)، والمفاهيم الجديدة هي دولة مدنية قائمة على المواطنة والشفافية والمحاسبية وأحزاب قائمة على البرامج لا الآيدولوجيا.


تعليق واحد

  1. والله يا عبد الجليل انت روائى اكتر من كونك صحفى. كم بعجبنى اسلوبك السلس . وسرد الممتع . حفظك الله