تحقيقات وتقارير

غندور يصافح كيري.. الـ(تطبيع) يتسلل


ما أن كشف وزير الخارجية البروفسير إبراهيم غندور، عن اتفاق مع نظيره وزير الخارجية الأميركي جون كيري، على وضع خارطة طريق لتطبيع العلاقات الثنائية بين الخرطوم وواشنطن خلال المرحلة المقبلة، حتى بدأ البعض يتفاءل بإمكانية فتح صفحة جديدة في العلاقات السودانية الأمريكية، التي ظلت تراوح مكانها منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث حملت صحف الخرطوم الصادرة بالأمس تصريحاً لغندور قال فيه: إن اللقاء الذي جمعه بنظيره الأميركي تطرق إلى مجمل القضايا ذات الاهتمام المشترك بين البلدين، فضلاً عن مناقشة قضايا الاستثمار، لكن المتابع للتعاطي الأمريكي مع القضايا السودانية يلحظ أنه ظل محل شك وريبة منذ زمن بعيد وقبيل التوقيع على اتفاقية نيفاشا التي أفضت إلى إنفصال الجنوب، إذ بدأ الدور الأمريكي تجاه الأزمات السودانية والتي تفتعل أمريكا بعضها «ابتزازاً» أكثر من كونه دوراً «وسطياً» لتفعيل العلاقات الثنائية بين البلدين، وبدت الإدارة الأمريكية من خلال ذلك الدور تستخدم القضايا والأزمات السودانية ومحاربة الإرهاب أوراق ضغط ضد السودان لإرغامه على المزيد من التنازلات والتعامل مع المصالح الأمريكية.

تكرار الوعود الأمريكية للخرطوم، جعل المسئولون بالحكومة السودانية لا يثقون فيها، بالرغم من أهمية العلاقة مع واشنطن، لكن دائماً ما تنتهي الوعود الصادرة من بلاد العم سام إلى تطبيع ناقص النمو، فمنذ الوعد الصادر من جون كيري وزير الخارجية الحالي الذي كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في 2011، بنزع اسم السودان عن لائحة الدول الراعية للإرهاب، ولم يحدث شيئاً من هذا القبيل، إلى أن جدد الوعد مرة آخري خلال لقائه بكرتي منذ عامين، وإن كان آخر ما خرج من الإدارة الأمريكية في هذا السياق، هو مطالبة أو اشتراط القائم بالأعمال الأمريكي معالجة الأزمة في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، إلى جانب معالجة مجمل القضايا الخلافية مع دولة الجنوب، قبل التطبيع حسب ما رشح من القائم بالأعمال الأمريكي عقب لقائه قبل سنوات خلت برئيس البرلمان السوداني أحمد إبراهيم الطاهر السابق، فهذه كانت آخر المطلوبات الأمريكية من الخرطوم حتى الآن، لكن هنالك قائمة طويلة من المطلوبات الأمريكية كما هو معلوم.

الراصد لمجريات الأمور يلحظ بصورة لا تخطئها الأعين أن السياسة السودانية بعد انفصال الجنوب، وبعد نيفاشا، لم تحقِّق نجاحات بحسب المعطيات، فيما يتعلق باستقرار الدولة بقيام نظام ديمقراطي في السودان، والعدالة الاجتماعية، والقضايا العالقة؛ فأمريكا تعتقد أنها – من ناحية أخلاقية – ملزمة بدعم الديمقراطية، وتستخدم فكرة التطبيع مع الخرطوم في تحقيق المزيد من المكاسب من الخرطوم في ملف آخر، فعندما انتهت مشكلة الجنوب بالانفصال، اتجهت للحديث عن قضية دارفور، وربطت حل مشكلة دارفور بالتطبيع مع أمريكا، واشترطت مؤخراً معالجة الأزمة في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، إلى جانب معالجة مجمل القضايا الخلافية مع دولة الجنوب، قبل التطبيع، ما يشير إلى أن حكومة الخرطوم – بتركيبتها الحالية – لا تتفق مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في السودان.

البعض الآخر يعتقد أن أمريكا تعادي الدول ذوات الاتجاهات الفكرية؛ مثل: السودان، التي يعتقَد أنها تطبق الشريعة، وهذا غير حقيقي؛ لأنه يتنافَى مع السياسة الأمريكية، مستشهدين بأنها أكثر دولة ساهمت في دعم مسلمي البلقان في كوسوفا والهرسك؛ لأن ذلك يتماشى مع مصالحها في حربها ضد المعسكر الشيوعي، وعليه؛ فإن الحكومة عندما تتحدث بأن أمريكا تعادي الخرطوم لأنها تطبق الشريعة؛ فإن ذلك يتنافى مع الواقع، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لديها إستراتيجية في المنطقة الإفريقية عامة، فمتى ما وجدت مصالحها، فإن عدو الأمس يصبح صديقَ اليوم، فالوعود الأمريكية للسودان بالتطبيع، والتراجع عنها في كل مرة، يؤكِّد أن الولايات المتحدة في تعاملها مع السودان ووعودها بالتطبيع تستخدم ذلك للمزيد من الضغوط والمكاسب.

كلما نظرت واشنطن بعينيها نحو الخرطوم، تبسمت الأخيرة وتفاءلت حتى وإن كانت هذه النظرات ستقود إلى تطبيع ناقص النمو، لكن هذا لم يمنع البعض من التفاؤل بأن يشكل اللقاء الذي جمع غندور بكيري بارقة أمل في طريق التطبيع الطويل، خصوصاً أن العلاقات بين الخرطوم وواشنطن يوماً بذات الحراك الذي شهدته أخيراً، ولعل الأحداث وتواترها اليومي على الخريطة السياسية الداخلية والعالمية هي ما جعل هذا التلاقي ممكناً، لذلك كله أصبح الكل ينظر لهذا التداعي بأنه خطوة تبشر بقدوم خطوات لاحقة، برغم اتهام غندور خلال حوار مع قناة روسيا اليوم، واشنطن، بعرقلة مسار إعفاء ديون السودان الخارجية، وقوله إن الخرطوم تتعرض إلى حصار اقتصادي آحادي مفروض من قبل أميركا، موضحاً أن الحصار الأميركي جامع يمنع تعامل الدول كافة والمؤسسات والمصارف المالية الدولية مع الخرطوم بسبب حجج واهية على رأسها رعاية الإرهاب وتدخلات في قضايا سودانية، وانتقد غندور بعنف عرقلة واشنطن لاستحقاق إعفاء الدين الخارجي للسودان، وأضاف وفقاً لاتفاقية الهبيك للدول الأقل نمواً والأكثر فقراً، نجد أن السودان مستحق لإعفاء الديون، وأشار غندور إلى أن إحدى اشتراطات اتفاق (نيفاشا) والتي كانت واشنطن راعية لها، أن يتم إعفاء ديون السودان بعد إجراء الاستفتاء حول حق تقرير مصير جنوب السودان، والذي انفصل وأسس دولته.

لكن فيما يبدو هذه المرة أن واشنطن، هي من تبدي رغبتها في التطبيع مع الخرطوم، بعد دعوتها لمساعد الرئيس السوداني مطلع العام الحالي، وفك الحظر على التكنولوجيا، بالإضافة إلى اللقاء الأخير الذي جمع كيري بغندور، فمنذ اللقاء الدبلوماسي الذي تم بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا قبل عامين بين وزير الخارجية السابق علي كرتي ونظيره الأمريكي جون كيري، تغيرت النظرة الأمريكية للخرطوم، خصوصاً أن اللقاء جاء بطلب من وزير الخارجية الأمريكي الذي زار السودان عدة مرات قبل توليه لهذا المنصب، إذ وقف على التطورات التي حدثت في السودان قبل الاستفتاء، وكان من الساعين لتحسين العلاقات مع السودان إبان توليه لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، وبالرغم من ذلك كله هنالك الكثير من المظان والشكوك المبررة بشأن إيفاء واشنطن بأي من وعودها للخرطوم، فعندما يحين وقت تنفيذ تلك الوعود بالتطبيع أو رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب والعقوبات الأمريكية، تفاجأ الخرطوم بمطلوبات جديدة واشتراطات متجددة ومتحركة، الأمر الذي يشير إلى حديث المبعوث الأمريكي السابق (بريستون ليمان)، الذي وصف تعامل واشنطن مع الخرطوم بمن يرحل قوائم المرمى في كرة القدم، فكلما اقترب من إحراز هدف محقق، ضاعت تلك الفرصة منه، لذلك مازالت واشنطن تعرقل مسار إعفاء ديون السودان الخارجية لأسباب سياسية بحتة، بحسب وزير الخارجية البروفسير إبراهيم غندور الذي أوضح أن إعفاء الديون ورفع الحصار الاقتصادي يمكِّن السودان من الاستفادة من موارده ويشجع الاستثمارات والمؤسسات الدولية على تمويل مشاريع التنمية المستدامة.

كان وزير الخارجية السابق علي كرتي قد صرح خلال حوار تلفزيوني مع قناة الشروق الفضائية، إن هناك تقدماً في مسيرة العلاقات بين الخرطوم وواشنطن رغم أن الأخيرة لم تلتزم من قبل بما وعدت به من رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والسودان كان ملتزماً تجاه قضايا تطبيع العلاقات بين البلدين، لكن كرتي عاد واعتبر الحوار رغم جديته مع أميركا إلا انه يسير ببطء، وقد لا يؤتي أكله بالسرعة المطلوبة. وأضاف: لكني أرى أننا فعلاً على عتبات الحوار الموضوعي والنظر إلى القضايا بصورة لم تكن من قبل، حيث ظلت العلاقات حلقة مفرغة بين واشنطن والخرطوم، رغم سعي الأخيرة للتطبيع؛ لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ العام 1998، التي بدورها أثقلت كاهله، خاصة في السنوات الأخيرة، بعد انفصال الجنوب، وذهاب الجمل بما حمل، بحسب ما تشير الوقائع.

قد يعزو بعض المحللين السياسيين خلف وعود التطبيع بين البلدين إلى أزمة دارفور، ومن ثمّ قضية المحكمة الجنائية الدولية، أو إلى مسألة تزعم واشنطن أنها مبدئية، وهي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، أو إلى اتهام واشنطن الخرطوم بدعم الإرهاب استناداً لتوصيفها لمفهوم الإرهاب، كل هذه الأمور قد تبدو منطقية ومناسبة لتبرير غضب واشنطن من الخرطوم، بيد أن هذه الأمور ليست إلا مسوغات تتخذها واشنطن لتفسير وتبرير تلك الخصومة التي تحول دون تطبيع العلاقات، بحسب ما ورد في مقال نشر بموقع الجزيرة نت للدكتور ياسر محجوب الحسين، إضافة إلى أن الحكومة الأمريكية لا تزال تستخدم الكروت السابقة للضغط على الحكومة السودانية ومن يحالفها، منذ أيام خلت أرسل فرانك وولف، عضو الكونغرس الأميركي والرئيس المشترك للجنة حقوق الإنسان بالكونغرس خطاباً، إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما، مطالباً فيه بوقف الدعم المادي الذي تقدمه بلاده لدولة ملاوي لاستقبالها للرئيس البشير في قمة دول الكوميسا، وغيرها من الشواهد التي تصعب من مهمة تطبيع العلاقات، بين الخرطوم وواشنطن.

إن مجرد فتح نوافذ الحوار مع الولايات المتحدة يعدّ خطوة إيجابية، وقد قالت الناطق باسم الخارجية الأمريكية الشابة ميري هارف إن المباحثات التي جرت بين واشنطن بدعوة من الحكومة الأمريكية للتباحث حول عدد من القضايا في إطار حوار مع حكومة السودان، وقال وزير الخارجية السابق علي كرتي إن زيارة غندور لواشنطن تمت بصفته مساعداً لرئيس الجمهورية وليس بقبعة نائب رئيس المؤتمر الوطني للشؤون السياسية والتنظيمية، وأثارت الزيارة بلبلة في وسط قوى المعارضة والقوى التي تحمل السلاح، وهي من استثمر طويلاً في الخلافات بين الخرطوم وواشنطن، وتتغذى القوى التي تحمل السلاح على ما يتساقط من خسائر العلاقات وتستفيد من المظلة الأمريكية التي وضعت السودان في قائمة الدول المارقة عليها، لكن ثمة مياه جرت في القارة الأفريقية دفعت الولايات المتحدة لـ(التفكير) في إعادة النظر في سياسات سابقة، وأول الأسباب هو الأوضاع في دولة جنوب السودان التي لها صلة مباشرة بالأوضاع في السودان، وحالة الانقسامات الشديدة والحرب الأهلية التي حصدت آلاف الأرواح وشردت مثلهم كلاجئين في دول الجوار، ويعدّ السودان عاملاً مهماً ومفتاحياً في حل القضية الجنوبية، كما أن للنزاع في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور صلة مباشرة بالجنوب، ومن هنا أكتسبت زيارة البروفيسور إبراهيم غندور للولايات المتحدة الأمريكية أهميتها عندما كان مساعداً لرئيس الجمهورية خصوصاً أنها تمخض عنها فك الحظر عن التكنولوجيا، وتوجت مجهودات غندور الذي أصبح لأحقاً وزيراً للخارجية بتوقيع اتفاق مع نظيره وزير الخارجية الأميركي جون كيري، على وضع خارطة طريق لتطبيع العلاقات الثنائية بين الخرطوم وواشنطن خلال المرحلة المقبلة.

كان المبعوث الأمريكي السابق لدى السودان (بريستون ليمان)، قد ألقى باللائمة على السودان، متهماً إيَّاها بإضاعة الفرص، فقد حانت الفرصة للسودان لتطبيع العلاقة عقب اتفاقية “نيفاشا” للسلام الشامل في عام (2005)، إلا أن أزمة دارفور جاءت، فعاد الحال كما كان عليه، ثم جاءت الفرصة الثانية والحاسمة لقبول السودان بنتائج استفتاء جنوب السودان واعترافها بذلك، إلى أن لاحت في الأفق حرب ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في السنة الأولى من الانفصال، ثم الحرب مع الغريم القديم جنوب السودان، إلى أن ضاعت كل الفرص السانحة، وبحسب (ليمان) يبدو أن السودان جاء بمتطلبات الجزرة الأمريكية، إلا أن هناك تماطلاً واضحاً لمزيد من الضغوط والمكاسب من جانب الخرطوم، في حين تنفي الخرطوم ما ذهب إليه ليمان وتؤكد هي الأخرى أنها جادة في مسألة التطبيع مع الولايات المتحدة الأمريكية، في وقت رجع فيه البعض عدم تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان إلى العقيدة البرجماتية التي تتخذها أمريكا، حيث أن البرجماتية تبحث عن المصالح، وأمريكا أينما وجدت مصالحها؛ فإنها تذهب إليها.

أكرم الفرجابي
صحيفة ألونا


تعليق واحد

  1. السوداني السياسي يتعامل مع الغرب والأجانب كما يتعامل مع ضيفه في بيته كرم بدون مقابل او قدم الخير اولا هذه الدول لا تتعامل بهذه العقليه السودانيه المبنيه علي الطيبه لدرجةً السذاجه
    مثلا السودان كان يعلم ان الدول الغربيه مجموعة تسعي لانفصال الجنوب بدلا ان يأخذ السودان حقوقه كاملا ويفك ليهم الجنوب فكوا الجنوب وقعدو انفكوا شرط اعفاء الديون والارهاب والتطبيع وغيرها مفروض تكون ضمن ديباجة نيفاشا يعني بالدارجي اقبض بعدين فك الاستجداء ما تنفع مع هذه الدول لان ليست من أخلاقياتها العطاء بدون مقابل مصلحتهم مقدمه علي اي شي
    ستطول قايمة مطالب الأمريكان حتي يفهم السودان التعامل الخارجي
    كل السياسات السودانيه الخارجيه عقيمه لانها تضع المصلحه السودانيه اولا
    الإنجليز دفعوا معاشات كل القوات التي عملت حتي لأولاد اولادهم في الهند كينيا وغيرها عدا السودان
    السودان تنازل عن حلفا للمصريين بدون مقابل السودان تنازل عن أراضيه في بني شنقول قمبيلا الفشقه وموارده بدون مقابل الان يحدث لحلايب
    السودان تنازل عن الجنوب كله بدون مقابل اي عقليه هذه