جعفر عباس

حضرقروي (1)


لو سألت عني أي شخص يعرفني جيداً فسيقول لك إن أبا الجعافر حضري أي ابن مدن، وذلك أنني عشت معظم سنوات حياتي في المدن، ولكنني في مواقف كثيرة أكتشف أنني قروي بدوي رعوي فلاحي، ويتضح لي ذلك بجلاء عند زيارة مدن غربية.
فرغم أنني أعرف معظم ما ينبغي أن يُعرف من معلومات عن الحضارة الغربية (أو أحسب ذلك)، ورغم أن المدارس على أيامنا كانت تعلمنا عن الحياة في بريطانيا عشرة أضعاف ما تعلمناه عن الحياة في وطننا ومحيطه، ورغم أنني زرت بريطانيا مراراً وعشت فيها حيناً من الدهر، فإنني أجد نفسي غريباً عنها كلما أتيتها، بل أزداد استعصاما وتمسكاً بجذوري وثقافتي.
والأنكى من ذلك أنني أقع في «أخطاء» كتلك التي يرتكبها القروي في احتكاكه الأول بالمدينة. مثل حكايتي مع الكوكاكولا عندما أتيت إلى الخرطوم أول مرة وكان حلم حياتي أن أتذوق الكولا، وأمسكت بالزجاجة الباردة كمن يمسك بجائزة نوبل، أو كأس العالم لكرة القدم، ورفعتها إلى أعلى بيدي الاثنتين، ثم وضعت الزجاجة في فمي وشفطت منها شفطة كبيرة، ثم قررت إبعاد الزجاجة عن فمي قليلاً كما رأيت الآخرين يفعلون، ولإطالة فترة استمتاعي بمحتوياتها، ولكن الزجاجة أبت أن تفارق فمي، بعد أن انحشار لساني في فوهتها، ثم أحسست بفلفل حار يسري عبر أنفي حتى سالت دموعي، وخرج سائل أسود عبر فتحتي أنفي، وبعد جهد ومكابدة نجحت في تخليص فمي، ولكن نصف محتويات الزجاجة انسكب على قميصي ورميت الزجاجة بما بقي فيها من مشروب، ومنذ يومها وأنا سيئ الظن بأمريكا وكل منتجات أمريكا. وأقسم بأنني لم أشرب محتويات زجاجة مشروب غازي كاملة طوال العشرين سنة الأخيرة سواء كانت مصنوعة في أمريكا أو كوستاريكا.
وأذكر يوم ركبت القطار في العاصمة الماليزية كولالمبور لأول مرة، ولأن خط سيره فوق مستوى الأرض بكثير فإنه يتيح للراكب رؤية معالم المدينة وأعجبت بنظافة عربات القطار، وكنت قد كتبت على ورقة اسم المحطة التي ينبغي أن أغادر فيها القطار، وكانت حيث برج بتروناس الذي كان يوما ما أعلى بناية في العالم، وهكذا ظلت عيناي ترصدان اسم كل محطة يقف فيها القطار ولكنني فوجئت بأنها جميعاً تحمل اسم «كيلوار».
كانت ماليزيا قد بهرتني بإنجازاتها وحسن هندستها ورقي شعبها، ومن ثم كان بدهياً أن أحتار في أمر غبائهم بإطلاق اسم واحد على كل محطات القطار، وهكذا قررت النزول من القطار والتوجه إلى حيث أريد بسيارة أجرة وفي المحطة قلت: لماذا لا تكون فاعل خير يا أبو الجعافر وتنبه العاملين في تلك القطارات إلى الخطأ المزري والمضحك المتمثل في إطلاق اسم واحد على كل المحطات؟
وهكذا توجهت إلى مسؤول في المحطة وأبديت له ملاحظتي، فما كان من الرجل إلا أن ضحك، فقلت في سرّي: لا بد أنه الشخص الغبي الذي أطلق على جميع المحطات نفس الاسم، فإذا به يقول إن كيلوار تعني بلغة أهل البلد «خروج/ مخرج»، وأضاف: طبعاً لا بد من ارشاد الركاب إلى منافذ الخروج في كل محطة وشرح لي كيف ان كل محطة تحمل اسماً مميزاً، مكتوبا في أكثر من موقع واحد.
المهم أنني بعد العديد من الهفوات التي ارتكبتها في بلاد «برة»، لم أعد أضحك على العربي الذي يدخل محلات سيلفريدج في لندن ويسأل رجل الأمن: عندكم سندويتشات شاورما؟ أو ذاك الذي قيل له ان عليه أن يسافر إلى دوفر على الشاطئ الشرقي لانجلترا ليسافر إلى فرنسا فسافر إلى ديفون التي على الشاطئ الغربي وتطل على المحيط الاطلنطي، فقرر مداراة «جهله بالسفر إلى إيرلندا بدلا من فرنسا.
*حضرقروي = حضري على قروي

jafabbas19@gmail.com