داليا الياس

أنيميا التعبير


وبينما يفتح العالم أبوابه في جميع الاتجاهات.. وتتسع رقعة التلاقح.. وتمتد موائد التحاور.. وتتاح إمكانية الوصول.. وتتمازج الفئات.. ويتسارع إيقاع الشبكة العنكبوتية.. وتتعدد الرؤى الإعلامية.. وترتفع الأصوات.. وتسهل المعرفة.. تضيق بالمقابل العبارة وتتراخى وتترهل!
نعم.. نعاني من أنيميا التعبير.. ترتقي كل الدنيا من حولنا ونرزح تحت وطأة الابتذال!
صفاقة في الخطاب الإنساني.. أخطاء لغوية وإملائية.. خلل في التعبير.. سطحية في التناول.. واستهتار بقدرة الكلمات على الأتيان بالمعجزات والتأثير الإيجابي!
وكأننا لم نعد نحسن الكلام! كطفل غرير غير ناضج تأتي خطاباتنا وتصريحاتنا السياسية والثقافية والرياضية والاقتصادية مربكة وغير مفهومة! لا تثير سوى الضحك والتهكم.. وتعجز عن تحقيق مراميها وإيصال ما يلزم من معلومات أو توضيح بعض الأمور الخفية!
تأملوا الخطاب الإعلامي.. وراقبوا المؤدين حاملي الرسالة.. لقد أصبحت الفجاجة اللغوية سمة رئيسة حتى أعتدنا الأمر، فلم يعد يثير حفيظتنا في الإذاعات والفضائيات لاسيما موجات (FM) القصيرة!
محاولات عمياء للتقليد تحولك لمسخ إعلامي لا هو قادر على التشبث بأذيال الغرب، كما يجب لأن لغته الأجنبية ضعيفة جداً، ولا هو قادر على الانتصار لعروبته، لأنه لم يتلق ما يلزم من أساسياتها، ولم يكتسب مهاراته الخاصة بالاطلاع والاستماع، إما من باب الجهل وإما المكابر !
سياسيون أقل ما يوصفون بالسماجة.. يقرأون خطابات ركيكة محشوة بالعبارات الجوفاء المفذلكة كتبها لهم آخرون في محاولة لإظهارهم بمظهر العارف المفوه، ولكنهم في الحقيقة جعلوا منهم مدعاة للسخرية والتندر والاستهزاء.. يرددون عبارات لم يكلفوا أنفسهم عنت مراجعتها والإطلاع عليها.. فيقعون في فخ العجز عن القراءة وكثيراً ما يغردون خارج سرب الموضوع المعين!
في كل الدنيا.. يحرص المسؤول المعني مهما كان حجم وظيفته وتأثيرها على التدقيق اللغوي واختيار عباراته بعناية فائقة قبل أن يخرج إلى الناس.. إلا في بلادي.. فإن السادة أصحاب النفوذ مولعون بالمايكرفونات.. تعتريهم حالة من النشوة حالما عانقوها.. فيبدأون في تشنيفنا (بكلام خارم بارم) ويطلقون وعوداً لن توفي يوماً!!
كما أن لهم عبارات ثابتة ومحددة وكأنها تسلم لهم ضمن تكاليفهم الوظيفية.. يرددونها في أي مكان.. بذات الجرس والمضمون.. حتى باتت وباتوا من الفجاجة والسماجة بمكان.. يفقدون التأثير ويمعنون في إرغامنا على الانصراف عنهم غير عابهين بمقاماتهم الرفيعة!!
أما على الصعيد الاجتماعي.. فلغة الكراهية والحسد والأقاويل والفتن والبهتان أصبحت تسيطر في الغالب أحاديثنا وحواراتنا وكتاباتنا!
وغالبية الأجيال الأخيرة تفتقر للأدب الخطابي مع الوالدين والمعلمين وحتى في ما بينها.. شباب وأطفال في أعمار يافعة تحتشد عباراتهم بالتردي والانحراف اللفظي الذي يندي له الجبين!
راقبوا الشارع العام.. أصبحت عبارات سوقية مبتذلة تطرق آذاننا على الطريق ببساطة دون أن يحرك المصدر ساكنٌ أو يردعه رادعٌ أو يرده حياءٌ من المارة أو خشية من الله!
كل هذا وأكثر ستلحظونه حالما تمعنتم في شكل الخطاب اللغوي الذي نستخدمه في كل مكان وبمختلف الفئات.. والسبب وراء كل ذلك ببساطة المنهج التعليمي المتردي.. والبعد عن كتاب الله.. المصدر الأول للغة والأدب والحصافة واللباقة والكياسة والتقوى!
تلويح:
كلما اتسع الإسفير.. تراجعت القدرة على التعبير!