الصادق الرزيقي

بوغوتا وليما.. عالم جديد


> لا يعرف الكثير منا أمريكا الجنوبية، سوى البرازيل وفنزويلا اللتين لدينا معهما علاقات دبلوماسية، أو ما نعرفه بشكل عام عن هذه البلدان المدهشة وتاريخها وحضاراتها أو ما عرفناه في عالم كرة القديم، وربما السبب أنها بعيدة عنا في الطرف الآخر من العالم، ولا توجد روابط قديمة بيننا وبينها، كما لا توجد مصالح ومنافع متبادلة في الاقتصاد والتجارة.
> قادتني رحلة طويلة بدأت من نيويورك إلى العاصمة البيروفية ليما، مروراً بالعاصمة الكولمبية «بوغوتا» الواقعة في منخفض وأخاديد ضخمة وسط جبال الإنديز، وقد تكونت صورتها لدي منذ سنوات طويلة عندما تفتحت مداركنا على الأدب اللاتيني ورويات الكاتب الكولمبي الراحل جبرائيل غارسيا ماركيز، ولم أكن أتصور أن العاصمة بوغوتا التي حكى عنها في كتابه «أن تعيش لتحكي» عن حياتها الصاخبة والمقاهي والصحف والشوارع والطبقة السياسية وصراعاتها القديمة في فترة من نهاية الأربعينيات من القرن الماضي حتى السبعينيات قبل انتقاله للعيش في المكسيك حتى وفاته، مدينة مغروسة وسط الجبال الشاهقة ومن ورائها تمتد غابات وسهول حتى حوض نهر الأمازون وأدغاله التي لم يكتشف بعضها حتى اليوم، الحياة الدافقة في بوغوتا وكل كولمبيا تعطي صورة مغايرة عن أمريكا الجنوبية، شعوب مختلفة من شعوب الشرق والغرب، خليط من البشر من السكان الأصليين من الهنود الأسبان والهجرات القديمة والعرب والأفارقة أنتج مجتمعات تعيش حياتها وتفاعلاتها السياسية والاجتماعية وتحتفظ بثقافات تنتمي لعالم ثالث متطور وخلاق، وسط بيئة غنية بالثروات والموارد الطبيعية وتتطلع للأمام.. وكثير منا لا يعرف عن كولمبيا إلا ماركيز و «كارتل» المخدرات ورموزه الشهيرة، ثم المغنية الكولمبية شاكيرا ذات الأصل اللبناني التي غنت قبل أيام في القاعة الرئيسة للأمم المتحدة في قمة التنمية المستدامة يوم «25» سبتمبر الماضي، لكن ما لا نعرفه عن كولمبيا أنها اقتصاد ناهض بقوة في أمريكا الجنوبية، وبدأت تشهد الاستقرار السياسي وتحوز على مركز متقدم في الإدارة والحكم الرشيد والديمقراطية ومكافحة الفساد، وهي أنموذج لهذه البلدان التي استفادت من المؤسسات الدولية والاقتصادية في بناء اقتصادياتها وتطوير مواردها وصناعاتها، بفضل الإدارة الكفؤة وترقية التعليم وفتح المجال أمام القطاع الخاص والصناعات، وقد ودعت كولمبيا عهد تجارة المخدرات والارتهان لمشيئة الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت بسبب مكافحتها وحربها على عصابات تجارة المخدرات الدولية تملي ما تريد على حكومات هذه البلدان وتتدخل في شؤونها الداخلية وتلعب النخب السياسية والحكومات كما تريد.
> أما في البيرو التي وصلتها قادماً من كولمبيا بعد ساعات طويلة في بوغوتا، فهي بلد يجب أن نستفيد من تجربته، البيرو بلد عريق شهد حضارة قديمة حضارة «الأنكا» توافقت في فترتها التاريخية مع الحضارات القديمة الفرعونية والآشورية والحضارة النوبية، وتدل الآثار التاريخية للأنكا على أنها كانت حضارة متقدمة ازدهرت فيها العلوم والزراعة وفلاحة الأرض والبناء، وسبقتها كما تقول الدراسات التاريخية حضارة أقدم منها تسمى «نورتي شيكو»، والبييرو مستعمرة أسبانية منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وتقع هي الأخرى في الجزء الغربي من أمريكا اللاتينية، وتطل على المحيط الهادي إلى الشرق والشمال الشرقي جبال الإنديز وغابات حوض نهر الأمازون، ووجود الحضارات الإنسانية القديمة يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، ويشكل سكانها خليطاً من الهنود الأصليين والآسيويين والأفارقة والأوروبيين خاصة الأسبان.
> هذا البلد الذي مر بمراحل تاريخية مختلفة من عهد الاستعمار الأسباني وعاش فقراً مدقعاً كان يعتمد على صيد الأسماك والزراعة، ينمو بسرعة مذهلة، والعاصمة ليما تعد اليوم من أنظف عواصم الدنيا وأكثرها تطوراً في المجال العمراني وتنظيم المدن وتخطيطها، مدينة ضخمة وواسعة عند السفح الغربي لجبال الإنديز تطل على شاطئ المحيط الهادي حيث يبدو موقعها المهيب ملهماً خاصة عندما تغيب الشمس عند آخر بقعة من الكرة الأرضية في اتجاه الغرب.. لا شيء بعدها.. تنتشر فيها الحدائق العامة والمتنزهات الجميلة، وعلى جنبات الطرق ووسطها في المدينة تنتشر حدائق الزهور بمحاذاة الشارع، يدهشك النظام والتقيد به في النظافة العامة وحركة المرور والمواطنين وإجراءات السلامة، ففي البصات العامة والحافلات داخل المدينة يتم ربط حزام الأمان وليس فقط في السيارات الخاصة، مجتمع لطيف ودود للغاية، نسبة الجريمة منخفضة مع ارتفاع في نسبة التعليم والوعي الاجتماعي، وقد استفادت البيرو من فرص كثيرة لتطوير التعليم والاهتمام بالمرأة والمجتمعات الريفية والتعليم عن بعد والتعليم الالكتروني، حيث تعد من الدول المتقدمة في هذا المجال في أمريكا الجنوبية.
> وتحتضن البيرو الاجتماع المشترك لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي فرصة نادرة لهذه الدولة أن تستفيد من هذه الميزة، ولا تكاد تجد أي مواطن بيروفي لا يعمل وينشط في إنجاح هذه المناسبة كأنها حدث وطني من الدرجة الأولى، طلاب وطالبات الجامعات بالآلاف يعملون في سكرتاريات وفرق العلاقات العامة والاستقبالات والتنظيم في مواقع المؤتمر المختلفة، فوسط المدينة كله بقاعاته الضخمة ومتاحفه ومقرات الحكومة والفنادق يعمل فيها آلاف الشباب والطلاب فضلاً عن موظفي الدولة لإنجاح المؤتمر والاجتماع، ويقولون لك: «العالم كله معنا هنا نحن من يستفيد».
«غداً نواصل».