منى ابوزيد

احفاد بن رشد ..!


«الثقافة الحقة ليست كتباً نقرؤها، أو نصوصاً نكتبها، أو حفنة معلومات نفاخر بامتلاكها .. بل حزمة وعي صلبة، عصيَّة على الكسر، وشجرة مبادئ وارفة ننطلق منها حيناً، وجبل رأي نأوي إليه أحياناً، فيعصمنا من جهالة أنفسنا، قبل أن يقينا شرور جهل الناس».. الكاتبة..!
من أكثر قراء المكتبات العامة – في العالم – نهماً، عجوز بريطانية عمرها يناهز القرن من الزمان، استعارت ما جاوز الخمسة والعشرين ألف كتاب من مكتبة محلية، ولم يحدث قط أن دفعت غرامة واحدة على تأخير إعادة كتاب .. أما أكبر لصوص الكتب – عندنا – فهم من الكتاب والأدباء والمثقفين، الذين قرأت في أحد الملاحق الثقافية عن تاريخ المرموقين منهم مع سرقة معارض الكتب، باستخدام حيلة حشو جيوب المعاطف بكتب المعارض والمتاجر خلسة، مع سبق إصار وعظيم ترصد ..!
انظر كيف أدى استسهال فكرة سرقة كتاب في مجتمعاتنا العربية المسلمة إلى تنميط هذا السلوك .. تنميطه إلى حد عدم الأخذ بكونه جريمة أخلاقية/قانونية على محمل الجد .. بل إلى حد تدبيج تحقيق صحفي ساخر عن هذا الفعل كظاهرة .. تحقيق «جاد» تضمن إفادات لصوص سابقين أصبحوا اليوم من مشاهير الأدباء والمثقفين، يحكون باستمتاع عن سوابقهم مع «لطش» الكتب، دونما حرج، أو ندوم .. أو حتى شبهة إنكار لمبدأ السرقة ..!
لا لوم إذاً – والحال كذلك – على بعض الصحف العربية التي صدعت رؤوسنا بدهشتها العظيمة من خبر عازفة البيانو البريطانية، التي استعارت كتاباً من المكتبة العامة في بلدتها قبل أكثر من سبعين عام «قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية» ونسيت أمره .. ثم عثرت عليه مصادفة في أثناء حملة تنظيف منزلي .. فأعادته إلى المكتبة .. بعد قرن إلا ثلث من الزمان!
بعض أضابير التاريخ الإسلامي في الأندلس وفي معرض نقلها صوراً عن تأثر العقل الأوروبي – الذي كان قابعاً في الغياهب قبل فتح الأندلس – بفكر العرب والمسلمين، أكدت على أن إجادة الخواجة الأسباني للغة العربية كانت موضة تعدل – في حجم «البوبار» المصاحب لها، والتثمين العالي لثقافة متحدثها – تفاخر أعراب هذا الزمان بإجادة الانجليزية والفرنسية ..!
فالسلوك الرشيد لمسلمي ذلك الزمان هو الوجه التاريخي لفكرة السلوك العصري، المتحضر .. احترام الوقت .. احترام النفس .. احترام القانون .. إلخ
كان الفرنجة يتأملون البعد الأخلاقي لسلوك المسلم الفاتح، ويتعجبون من حرص الواحد منهم على لزوم ما يرونه غير لازم من فضائل .. ليس خوفاً أو طمعاً، بل حرصاً على أن يتحقق المبدأ .. وحتى يصح الصحيح ..!
وهكذا .. بينما مضت سلالات أولئك الفرنجة في طريق احترام القوانين والحقوق«إلى درجة إعادة كتاب مستعار بعد عشرات السنين».. تحول أحفاد أجدادنا الفاتحين إلى اعتناق ثقافة اللصوصية .. من اغتصاب كراسي الحكم بشعارات الوطنية، ونهب الأموال العامة باسم الدين .. إلى سرقة الكتب حيناً، وانتحال المكتوب أحياناً، باسم الثقافة ..!