منى ابوزيد

سر الانحناءة ..!


«يظن الشباب أن كبار السن حمقى .. أما كبار السن فيعرفون أن الشباب حمقى».. جورج شابمان ..!
هي أنثى أثبتت خصوبتها بحماسة فيها بعض المبالغة، فقد كانت زوجةً قبل أن تنهي ألعاب طفولتها، وأصبحت أماً قبل أن تقف بثبات على أعتاب الأنوثة، وعندما صارت جدة، كان ذلك قبل أن تصل إلى سن العنوسة حتى! .. تفنُّنها في ممارسة أنوثتها ما هو إلا شكل من أشكال سطوة التقاليد في قريتها الصغيرة، التي لا يعرفها إلا من كان يمتلك المبرر المُلح والكافي ليفعل..!
امرأةٌ مثقلةٌ بالحكمة الحاضرة كسنابل القمح وقت الحصاد، حكمتها كاللؤلؤ لم تتكوّن في ظل التّرف، بل كانت حصيلة كل ما مرت به من مصاعب، وما قاسته من آلام، وما شهدته عبر تعاقب جيلين من قفزاتٍ حضاريّةٍ متسارعةٍ هزّت مجتمع القرية بسخاء!
هبوب رياح التغيير في مجتمعها الصغير تطلّب نزوح معظم أبنائها إلى العاصمة الكبرى، في متواليةٍ نمطيّةٍ مَنطقَتْها رياح التغيير التي هبت ذات سكون .. كانت تتذمر من زيارة العاصمة، تفعل ذلك بثباتٍ لا يتزحزح، وإن اضطرت، تتململ أساريرها فتبرز التجاعيد في وجهها بجفاء.. أما حين تؤوب فقد كانت نظرتها تعانق أرض القرية، وعلى جانب فمها المتغضن طيف ابتسامة ..!
قالت ذات مساء مخاطبة إحدى صديقات حفيدتها «كانت الضيفة تذمر من تقصف شعرها الذي أنهكته مستحضرات التلوين».. في زماننا كنا نضع بول الإبل فكانت جدائلنا مضرب الأمثال! .. ثم أطرقت، متظاهرة بأنها مجرد عجوز أمام تلك النظرة المرتاعة التي حدجتها بها حفيدتها المتفرنجة.. لم تغب عن فطنتها نكهة السخرية في سؤال الضيفة التي قالت بقرف أجادت إخفاءه.. «كيف تستخدمونه»؟! ثم مشيرةً بأصابعها الأنيقة إلى رأسها الجميل «وكم يبقى على الشعر يا جدتي»..؟!
إلا أن العجوز بدت مستمتعةً بامتعاضهما الطفولي، فاسترسلت خارج النص: «الإبل في زماننا كانت ترعى على الأعشاب المغذية والعطرية»! .. وعلى الرغم من حكمتها التي لا جدال حولها، كانت تبدو في لمحات عابرة مجرد عجوز أخرى بسيطة، يسعدها تبادل الذكريات ..!
عندما هم زوجها بالزواج من أخرى «أرملة ذات سوابق، شفعت لها أنوثتها ونظافتها ونشاطها الفريد» عاد إلى البيت في إحدى الأمسيات القليلة المتبقية لها، قبل أن يصبح لهما معاً، يحمل بين يديه ثوبين.. أهداها أحدهما على سبيل الترضية، فسألته:
الآخر للعروس..؟!
ثم، وقبل أن يجيب: وأمها..؟!
سكت، فـ«حردت» ثوبها.. ولم تنم ليلتها تلك ..!
تقترب منها وأنت تسير في الشارع تحييها متوقعاً أن تتفاجأ بك، لكنها ترد التحيَّة ومن ثم تلقي عليك وابلاً من الأسئلة.. تحدثك عن اتجاهك وكأنها لم تكن تفعل شيئا سوى مراقبتك وأنت تسير! .. تفعل ذلك وهى منحنية على شؤونها، تعالجها بذات الكفاءة التي تعالج بها محاولاتك اليائسة للتملص من أسئلتها الفضولية ..!
ومن ثم، قد تصبح أنت أيها المستهين بكل ذلك – ما بين ليلة وضحاها، وعلى الرغم من كل البراءة التى قد ينضح بها وجهك – قصةً أخرى من تلك القصص التي يتداولها الآخرون مؤكدين حقيقة حكمتها البالغة في معرفة خبايا البشر .. منهمكين.. بذلك .. في ممارسة نموذجية لجحيم سارتر..!
كل انحناءاتها حبلى بالنتائج الباهرة التي تعقبها دوماً ممارسة مبهرة للحكمة ..!
لا أحد يستطيع الجزم بشأنها.. هل ما تفعله من ممارسة لحكمتها نابع عن ما تبذله من جهد لتفقد أحوال الناس، أو أنها تعرف كل ما تعرفه – فقط دون زيادة أو نقصان – لكنها تفلسفه وفقاً لخبرتها العميقة في تحليل تصرفات البشر، باختلاف انتماءاتهم .. وطبقاتهم .. وحقيقة ما يفعلون ..!
بصرف النظر عن طبيعة الإجابة – أو مبررها المنطقي – لم تفقد العجائز يوماً قدرتهن المتجددة على إبهارنا، حينما تداعب نسائم فطنتهن غرور شبابنا الغافل عن حقائق عالمهن .. تلك الحقائق التى لن نقف عليها كاملة إلا بتعاقب السنوات علينا ..!