مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : الإرهاق الخلّاق.. والثورات


تجاوز مصطلح الفوضى الخلّاقة حدود ثورات الربيع العربي إلى فوضى في صفوف الثوار ومعارضي نظم الحكم المستمرة، على الرغم من الثورة، كما في حالة سورية، ومن النظم المرتدة عن الديمقراطية، مثل حالة مصر.
وحيث إنّه لا مجال لتجاوز وجود أميركا أمراً واقعاً على خارطة الشرق الأوسط، فإنّ بروز مصطلح الفوضى الخلّاقة يجيء أميركياً بامتياز. صكّه المؤرخ الأميركي تاير ماهان عام 1902، ثم ظهر باسم مشروع حدود الدم الذي أطلقه الأميركي برنارد لويس 1983، وقام بتشذيبه الأميركي مايكل ليدين، فسماه “الفوضى البنّاءة” أو “التدمير البنّاء” في 2003، ثم في 2005، أدلت به وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، كونداليزا رايس، وقد شرحت، في مقابلة معها في صحيفة واشنطن بوست، كيفية انتقال الدول العربية والإسلامية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وأعلنت أنّ الولايات المتحدة ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلّاقة في منطقة الشرق الأوسط، لنشر الديمقراطية فيها.
وفي خضم هذه الفوضى، وقبل مرحلة البناء، لا بد من وقفة على ما جاءت به مجلة فورين بوليسي، في عددها يوم 20 أغسطس/ آب الماضي، في مقال للمستشارة السابقة لوزارة الخارجية وأستاذة القانون في جامعة جورج تاون، روزا بروكس، أوضحت فيه احتمال تحالف الولايات المتحدة مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مستقبلاً، بشرط تخفيف الأخير وحشيته. وقد بنت بروكس فرضيتها مستعينة بالتاريخ الذي شهد ارتكاب الفظائع الجماعية، ما لا تشكّل معه ممارسات “داعش” عائقاً أمام النجاح في المستقبل. ومما أوردته أنّ بريطانيا شيدت إمبراطوريتها معتمدة على تجارة الرقيق، وألمانيا ارتكبت أكبر إبادة في التاريخ، وحكومة فرنسا الثورية قطعت علناً رؤوس حوالي 40 ألفاً إثر الثورة باسم الحرية والمساواة والأخوّة، وقتلت أكثر من 150 ألفاً في بدايات 1790، وها هي فرنسا اليوم حليفة للولايات المتحدة.
تتلصص عيون التاريخ على هذه النظرية التي تحاول إثبات أنّه، عندما يصل المجتمع إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف الهائل وإراقة الدماء والرعب، يصبح ممكناً بناؤه من جديد بهوية جديدة، فمن قبل، اتسعت رقعة الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي، وامتد نطاقها الذي كان يوضح أنّها ليست مجرد نزاع بين الأمم، لكنها، في جوهرها، صراع بين الأفكار والأيديولوجيات التي تعتنقها تلك الأمم، النازية والفاشية والاشتراكية والليبرالية.
يحدث الآن شيءٌ أشبه بذلك في منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت مرجلاً يغلي بالصراع الطائفي. فاقم من هذا الوضع ضعفٌ بائن في دور المنظمات الدولية والمجتمع الدولي الذي كانت تستنجد به التنظيمات وقوى المعارضة الثائرة على نُظم الحكم الجاثمة على الصدور.
تختلف المعارضة في بلدان الربيع العربي الآن عن غيرها من قوى المعارضة السابقة، من
“التمايزات على المستويات الاجتماعية والمناطقية التي كانت تعاني منها أنظمة الحكم، يعيد صياغتها الثوار في دول الربيع العربي، خصوصاً في سورية” حيث التكوين والظروف، وحتى الزمان، فقد أتت في زمانٍ ضعفت فيه قوى المجتمع المدني. هذه المعارضة التي وقفت مع الثوار، حتى أسقطت الحكومات الديكتاتورية، أُعيدت صياغتها من أشتات المعارضة، فمن أعضائها من يعارض من أجل الوطن، ومنهم من يعارض من أجل المعارضة لا غير. أما البقعة التي يُقام عليها فعل المعارضة فمساحة تتسع لهذه الفوضى. وأميل إلى وصف أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ميسوري الأميركية، عبد الله علي إبراهيم، لهذه الحالة، في مقال كتبه في بدايات تسعينيات القرن الماضي بعنوان “الإرهاق الخلّاق”، وصفة سياسية لحالة الأزمة السودانية، داعياً إلى صلح قومي لتجديد البيئة السياسية المفلسة.
وبينما يدكّ ثور نظرية الفوضى الخلّاقة مستودع الشرق الأوسط الخزفي دكّاً، يحوم خذلان فعل الثورات داخلياً وخارجياً. يصدر الداخلي من النزعة الانفصالية للثوار وتفرّق ريحهم. ونجد أنّ التمايزات على المستويات الاجتماعية والمناطقية التي كانت تعاني منها أنظمة الحكم، يعيد صياغتها الثوار في دول الربيع العربي، خصوصاً في سورية. فالثورة السورية لم تقطف ثمارها بعد، ما يجعل الخلاف الطائفي والأيديولوجي صارفاً للجهود عن مشروع إسقاط النظام. وخصوصية الوضع السوري ناشئة عن أنّ المشروع الثوري قام على جذوات وبقايا أيديولوجيات متجذرة في تربة المجتمع السوري، ما يصعب معه التفريق بين الانتماءات المختلفة. وهذا الوضع من الخذلان الداخلي للثورة كشفه انكفاء الفعل الثوري، بفعل انتماءات أفراده، مجسّداً ما كان يُمارس على المجتمع من تسلط، ورافعاً من وتيرة انقسام المعارضة السورية نفسها. وقد وضعت هذه الانقسامات في المعارضة السورية، وتحولها إلى فصائل غير مؤتلفة، التحالف الدولي الداعم لتغيير النظام السوري وأصدقاء سورية من أجل الشرعية في موقف حائر، إزاء التحركات الروسية وفتور مبادرات جامعة الدول العربية والأمم المتحدة.
أما الخذلان الخارجي، فقد اتضح في بعض التصريحات، من جديدها ما ذكره المرشح الجمهوري المحتمل لانتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، دونالد ترامب؛ أنّ الشرق الأوسط كان سيصبح أكثر استقراراً لو ظل معمر القذافي وصدام حسين في السلطة في ليبيا والعراق، بالنظر إلى ما يحيط بالبلدين من فوضى. ويشير ترامب، ضمنياً، إلى أنه لا جدوى للجهود الراهنة في إطاحة الرئيس السوري بشار الأسد، وحجته أنّه إذا أُزيح الأسد من السلطة، قد يحلّ من هو أسوأ منه مكانه. ووفقاً لوجهة النظر هذه، سيكون الاجتهاد قياسياً بشكل كبير، بالنظر إلى تقييم الحاكم الأفضل بأنّه الأقلّ ضرراً. وإن قُدّر وفاز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، فإنه لن يترك باباً تنفذ خلاله أمنيات الشعوب العربية في الحرية الحمراء.