تحقيقات وتقارير

تطويع الطين إلى قصر منيف على يدي “محو بك” تاريخ الجمهورى القديم


لعل كثيرون يجهلون أن أول من ابتدر بناء هذا الصرح الشامخ على شاطئ النيل (القصر الجمهوري) هو ضابط المشاة التركي (محو بك)، وأنه شيده للمرة بالطين (اللبن). عمل محو بك ضمن منسوبي قوة (إبراهيم باشا) في حروب الشام بين عامي (1818 – 1819) قبل أن ينقل إلى السودان عام 1821 مديرا لبربر وشندي ومناطق الرباطاب خلفاً لأحمد أغا بك، وما إن وصل إلى مديريته مستهل العام 1822 حتى باشر ترتيبات ترحيل (الرقيق) بحسب ما كان يحدث في ذلك الزمان، عن طريق النهر إلى صعيد مصر حيث معسكر القوات المصرية.
ضربة البداية
أُستدعي (محو بك) إلى الخرطوم بعيد وفاة الأميرلاي عثمان بك الذي كان حاكما على سنار في عام 1925م، ثم خلفه عليها بداية عام 1826 خورشيد باشا أغا، وابتدر محو بك بناء القصر الجمهوري من الطين وخلفه في الإدارة المصرية في السودان بعد وفاته ولفترة قصيرة عثمان بك، وهو أحد الضباط المصريين، ورغم أنه لم يعمر طويلاً في الخرطوم، لكنه أضاف بعض التحسينات على القصر.
خورشيد والتعمير :
بوفاة محو بك انطوت أيام العمران في القصر الجمهوري إلا أنها ما لبثت أن تجددت في عهد خورشيد باشا الذي تولى الحمكدارية لفترة طويلة من (1826 – 1839) وساهم بقسط وافر في تعمير مدينة الخرطوم، ولا شك أن مكتبه ومسكنه بالقصر كانا في مقدمة أعمال التعمير.
خرائب سوبا والطوب الأحمر
في عهد عبد اللطيف باشا عبد الله حدثت قفزات في بناء قصر الحكم (الجمهوري)، حيث استفاد من الطوب الأحمر الذي خلفته أثار مملكة علوة في سوبا، فاستجلبه وأعاد بناء القصر، فأدخل لأول مره الطوب الأحمر على جدرانه، كما أجرى تحسينات زخرفية على جدران القصر، حيث شيدت بعض جوانبه بالحجر الأبيض المنحوت الذي استجلب من أم درمان. ويشار في هذا السياق إلى أن عملية إعادة تأهيل وبناء القصر في عهد عبد اللطيف استغرقت أكثر من عامين (1850 إلى 1852) وتمت على يد بنائين وعمال مصريين.
طراز الجنتو:
بني القصر من طابقين على مدخل كل منهما برج دائري عظيم وكان وضعه، كما هو عليه الآن ممتدا من الشرق إلى الغرب بجناحين ممتدين شمالا وجنوبا، وعلى طول القصر من الداخل تمتد الفراندات في مواجهة النيل الأزرق، إضافة إلى حجرات للاستقبال والطعام والنوم وحوض للسباحة، وخصص لـ (حريم الباشا) مبنى آخر يتكون من طابقين.
توالت التحسينات على القصر، ففي أحمد ممتاز باشا الذي كان حاكما لجنوب السودان بين عامي (1871 – 1872) وفي عهد إسماعيل باشا أيوب (1873 – 1876) شيدت واجهة رئيسة، وأُجري عديد التعديلات على الأجنحة، بحيث استقر القصر في مرحلته الأخيرة على نسق معماري يعرف بطراز (الجنتو)، وهو نشق مقتبس من مباني الكنيسة الكاثوليكية والتي كانت تقوم مكان المديرية الآن، وهو الطراز الذي شاع في بناء الكنائس في إيطاليا في القرن السابع عشر.
الرجل الأعزب
بعيد اختيار الجنرال غردون باشا سردارا للجيش المصري تم ابتعاثة إلى الخرطوم في 18 فبراير 1884م، فشهد القصر الجمهوري حلول أول حاكم عام أعزب بين ردهاته، وربما هذا ما جعل غردون يخصص الطابق الأرضي للإدارة فيما أبقى على الأعلى مسكنا خاصا له ومعاونيه، مستر (يور) والكولونيل (استيوارت) وكان الأول قنصلا لبريطانيا في الخرطوم والثاني ضابطا بريطانيا مرافقا لغردون وأقرب مستشاريه إليه.
وأثناء حصار المهدي للخرطوم (1884) نصب غردون على سطح القصر مدافع موجهة إلى جهة الشمال، حيث يعسكر جيش المهدي، ثم توالت الأحداث عاصفة على القصر وساكنه الذي لقي حتفه على يد الثوار المهدويين، فظل القصر مكاناً موحشا على حد وصف المستعمرين، كما سنرى ذلك.
كتشنر والقصر:
اختار المهدي أم درمان (البقعة) عاصمة لدولته الوليدة، ولم يعش طويلاً، فتولى خليفته عبد الله التعايشي الأمر من بعده، إلى أن أرسل الإنجليز الكولونيل كتشنر الذي استعاد السودان إلى مستعمرات الإمبراطويرية التي لا تغيب شمسها.
عاش كتشنر داخل القصر أياما عصيبة وصفها الكولونيول استانتوت بقوله “كان مشهد القصر الجمهورى بعد مقتل غردون كئيبا موحشا، فقد أخذ الأنصار منه الشبابيك والأبواب والأسقف، ولم يبق منه إلا حائط الدور، فقد هدموا حائط الطابق الأول تماماً، ومع ذلك فقد ظلت معالمه واضحة، خاصة في الردهات والسلم الذي قتل عليه غردون. ومجدداً رفع كتشنر العلمين البريطانى والمصري على الحائط الشمالي من القصر”.

 

 

اليوم التالي


تعليق واحد