منى ابوزيد

وليمة الورد ..!


«تيجان الورود وأكاليل الغار من اختراع الشعوب الحرة».. خوسيه ريزال!

في الخرطوم التي يحدث فيها كل شيء، عندما كان عام 96 يودع نصفه الأول، و ذات نهارٍ محايد استأجرنا – صديقتاي وأنا – سيارة أجرة لتُقلَّنا إلى «مشتل زكي» الذي كان ينفرد بإنتاج باقات الورد الطازجة ! .. وقتها لم تكن الخرطوم تعج بمحلات بيع الورد المنتشرة الآن ..!

كنا ذاهبين لعيادة صديقة مريضة، ولأننا من الذين عاشوا و ترعرعوا خارج البلد، لم تكن معرفتنا بالطرق والشوارع كافية، الأمر الذي أثار تذمر السائق العجوز:

– إنتو ماشين ياتو بيت هنا بالضبط ..؟!

ما بيت يا عمُّو .. مشتل..؟!

– عاوزين تشتروا زرع..؟!

لا.. عاوزين نشتري ورد.. عندنا صاحبتنا عيانة وماشين نزورها..

– ورد شنو ؟! هسه كان اشتريتو ليها كيسين فاكهة ما كان أخير ليها ..!

في طريق العودة وبينما كان السائق العجوز يرمقنا بامتعاض – من خلال مرآة السيارة – كنا نتأمل بابتسامات طفولية باقات الورد البديعة تلك، وقطرات الماء المتناثرة عليها كحبات اللؤلؤ ..!

كانت صديقتنا تلك تقطن في الجانب الآخر من شارع المعرض الذي يمتد بين منطقة بري وحي جاردن سيتي، وكأنه يُمهِّد بامتداده لذلك التطرُّف الواضح بين مظهر البيوت العادية الُمتراصَّة على مرمى حجر منه وتلك البيوت ذات الأناقة الغامضة على الجانب الآخر..!

على الرغم من قوة المودة التي كانت تربطنا بتلك الصديقة لم يكن لدينا علمٌ كافٍ بوضعها المادي، ولم يحدث أن ذهبنا لزيارتها قط.. هي التي كانت تزورنا حيث نسكن، تستعير منِّا بعض الكتب ثم تعيدها بانتظام، ولا أظن أن فتاة في مثل أعمارنا وقتها قد تعقِّب على كاتب أو كتاب بمثل ما كانت تفعل بعد قراءتها لهمنجواي وفولكنر وتولستوي وفلوبير ..!

إنما لم يحدث قط أن دعتنا لزيارتها و لم يحدث أن أبدينا رغبة بذلك ..

إلى أن جاء يوم افتقدنا فيه زياراتها بعد غياب عدة أيام، سألنا عنها صديقتها التي كانت تعمل في محل اتصالات قريب فأخبرتنا بمرضها فذهبنا للاطمئنان عليها..

كان المنزل متواضعاً ينم عن فقر مدقع الأمر الذي فاجأنا كثيراً.. لكننا وبرعونة الذين يعيشون على هامش الواقع ذهبنا لعيادتها محملين بالورود ولم نفكر قط في احتمال حاجتها للمال .. لعله صغر السن أو قلة المعاصرة، أو ربما لأنها لم تشعرنا يوماً بأنها فقيرة!

يومها تمنينا لها عاجل الشفاء ثم خرجنا مطرقين يغمرنا الخجل وتركنا باقات الورود تلك مكدسة بغباء على طاولة قريبة بجانب سريرها المتواضع!

وعندما استدركنا الأمر وحاولنا أن نساعدها ببعض المال نظرت تلك الصديقة بازدراء إلى المظروف الملون الذي كانت عليه صورة دبدوب – يطير في الهواء و هو يحمل بالوناً و يبتسم في غباء «يشبه غباءنا» – قبل أن تعيده إلينا برفض حزين، حاسم!.. ومنذ ساعة وليمة الورد تلك فقدنا زيارات صديقتنا النبيلة، و لم نعد نراها كثيراً..!

بعد مرور سنوات قابلت صديقتنا الجليلة مصادفةً، فقادتنا الونسة إلى تفاصيل ذلك اليوم الكئيب، فحدثتها عن امتعاض سائق التاكسي من باقات الورد واقتراحه أكياس الفاكهة كهدية أكثر واقعية.. عندها فوجئت بصديقتنا النبيلة تخبرني كيف أنهم في ذلك اليوم لم يكونوا يملكون قوت يومهم بالمعنى الحرفي للجملة! .. ثم كيف منعها التعفف من قبول ذلك المال الذي جمعناه لأجلها.. كانت تقول ذلك – وهي تضحك – بقناعة وسماحة نفس ألمتني، وانتزعت مني دمعة خجلى ..!

ما أدرانا وقتها بأن العالم أكثر تعقيداً وقبحاً مما كنا نظن؟! اليوم – وبعد أن انتقلت معظمنا من تدليل الآباء، غير المشروط، إلى مشاركة الأزواج أعباء الحياة وأتراحها – أدركنا كم كانت باقات الورد تلك خياراً ساذجاً !!