رأي ومقالات

الفن الهابط خروج جماعي عن الأصالة والجمال


لقد أصبح لافتا للنظر وخاصة في الآونة الأخيرة كثرة الأسماء التي تدعي وصلها بالفن، وتسعي جاهدة لاكتساب رضى الجمهور، والعجيب أنهم ليسوا أهل إبداع؛ بل يمكن أن نصف أنهم مجرد علبات صوتية ليس لها وقع فعال ومؤثر؛ بل تلهي الجمهور برقصات غريبة على أنغام موسيقي مستوحاة من التراث الأجنبي العابر للقارات بقوة اللسان أو بسطوة السنان، وحملت إلينا العولمة ورعتها الإمبراطوريات العملاقة التي ما فتئت تروج لثقافتها وتجبر الناس على تبنيها دون تنقيح أو تدقيق على حساب ثقافة وفن الدول الضعيفة مستغلة بالضعف الواضح والاستسلام الظاهر تارة والمصالح السياسية والعصى العسكرية تارة أخرى، وتلقينا بإعجاب شديد كما قال ابن خلدون ” المغلوب مولع بتقليد الغالب”.

وصاحبت هذا الموجة العارمة بخلط الأوراق وتردي الفن، وفقدنا متعة النص وروعة الأداء وجمالية الموسيقى في حضرة هذا الجيل الغارق بوحل التقليد ومستنقعات الفن الهابط ، والمهوس بتبني ما هو جديد في عالم الفن دونما تمحيص أو تفحيص، وبغض النظر عن ملاءمته أو تطابقة مع المكون الصومالي وفنه العريق الهادف الذي كان يقدم أعمالا فنية راقية وكوكبة من الممثلين والمغنيين أصحاب الإبداعات الذين أمتعوا الجماهير وأتحفونا بمواهبهم الراقية.

قد يقول قائل: إن هذا النوع من الفنانين لهم جمهورهم الوفية الذين يملؤون حفلاتهم ويشترون كليباتهم وألبوماتهم بعد نزوله للسوق، ويمتلكون جمهورا مقدرة ومؤيدين يتابعون أنشطتهم الغنائية وحتى تغريداتهم وكتاباتهم في مواقع التواصل الاجتماعية، ولكن الإجابة واضحة، وهي أنَّ تعلق الشباب مثل هؤلاء الفنانين سببه خلو الجو وفراغه من القامات العالية -عمالقة الفن وعظماء المسرح- الذين كانت لهم صولات وجولات مشهودة في الوسط الصومالي خلال السبعينات والثمانينيات من القرن المنصرم، ومما يبعد تصدر هذا الفئة المذكورة للفن عدم قدرتهم لإرضاء الجمهور وافتقارهم الواضح للإبداع ومقومات الفنان وصفاته الحقيقية، بل يفتقرون أبسط موهبة يجب للفنان أن يتحلى بها، والفنان لكي يكون نجما لامعا يجب أن يهب حياته للفن دون حسرة وبلا ندم، وأن يتسلح بعزيمة فولاذية لا تعرف الاستكانة مع التعلم من الأخطاء السابقة والتجارب الماضية وتصحيح المسار والتطوير المستمر لإمكانياته الصوتية التي هي أعقد آلة موسيقية تجذب الجمهور للفنان، وهذا ما يفقده معظم جيل الهيب هوب والراب والفن الحداثي الهابط الذي يسعي إلى تخدير عقل المستمع أو المشاهد بتقديم إغراءات وقبلات ساخنة وحركات ميلودرامية سيئة الإخراج.

الفن لكي يكون الواجهة الحضارية للأمة وزفراتها الحقيقية يجب أن يكون راقيا وإنتاجا محليا خالصا ينتمي إلى الشعوب، يفهمه الصغير والكبير، وهذه القاعدة نجدها على مشارف الهلاك بعد العولمة والتخبط السائد للأعمال الفكرية والأدبية والفنية، حتى التبس الفن الجميل بالردئ والأدب الحقيقي بالتافه، لذا من البديهي أن لا نطلق بعض الفنانين وأغنيتهم في الحاضر أنهم من الشعب وإلى الشعب! لبعد فنهم وكيفية تناوله للأحداث أو تقديم رسائله؛ بل أعمالهم غريبة كتصرفاتهم، بينما نقول بكل أريحية أن الفن في الماضي كان ينتمي إلى الشعب؛ لأن الوقع الموسيقي والصوت الغنائي والفنان كان منسجا مع وجدان الشخصية الصومالية، وكان الفن بجميع أنواعه المعروفة تاجا يومض في الأفق، ونغما جميلا خالدا تربطه خيوط حب وعاطفة مع الشخصية الصومالية التي كانت تحمل للفن الراقي المبدع حبا أزليا يكمن في تكوينها وتتجذر في أعماقها،

والفن تعبير رائع لما يحس المرء ويشعر به، ولوحة جميلة مليئة بالمتعة والفائدة، لذا لا يمكن أن نطلق فنانا كل من حمل الغيثارة وترنم بعض الكلمات السوقية العديمة المعني! وقص شعره بطريقة غريبة وملأ جسمه بأوشام تدل عن تبلد مزاجه وغرابة سلوكه، ومن العجائب أن معظم هؤلاء الذين مزجوا كلماتهم بألفاظ شرقية وغربية تافهة، واجتهدوا تبني ثقافة أجنبية لا نعرفها ولا تهز كلماتها شعرة من رأسنا ملأ الدنيا ضجيج الحداثة وعجيج التجديد! ونحن لا نرفض التجديد والتطوير والاحتكاك المفيد بالثقافات الأخرى والاستفادة منهم بقدر ما يحرك المياه الراكدة ويخدم الفن الصومالي في شتي المجالات، ولكن نرفض وبشدة أن نتنصل كل ما له صلة بالماضي وتاريخه، ونتبني ونستميت بدفاع ما هو جديد بمجرد أنه جديد ولم يكن معروفا أو مألوفا في الماضي، وباعتقاد أنه سننقل معه من قاع التخلف لفياح التقدم وفي مصاف الفنان الأمريكي أو الجاميكي.

ونرفض أيضا التقليد الأعمي في كل شيء بدءاً من صعود المسرح إلى طريقة مسك الميكرفون مرورا بالأداء والتحركات، وهذا من فرط غباوة الفنان المعاصر، لأن الفن لا يعترف التصدير ولا الاستنساخ وما يصلح مثلا للشعب الإيطالي أو الجمهور الأمريكي أو النيجيري لا يصلح للجمهور الصومالي، وناهيك عن الدول البعيدة جغرافيا فالفن الإثيوبي أو الكيني رغم احتكاكهم الثقافي وانتمائهم لشعوب شرق إفريقيا التي تمازجت وتشابكت تاريخيا وحضاريا إلا أن فنهم لا يصلح للشخصية الصومالية باعتبارات دينية وأخلاقية وذوقية، وهذه حقيقة لا بد أن يدركها الفنان ليتسلق إلى قمة الفن وليغرد في أعلى قممه وسفوحه المنعشة.

ومن الجدير أن نعرف أن المشكلة اليوم تكمن الاختلاف الكبيرالذي طرأ على خارطة الفن مما أدي إلى تغيره مغزى ومعنى، ويكون الاختلاف واضحا إذا أمعنَّا النظر بين الشعراء والأدباء بين الماضي والحاضر، فالشاعر الذي كان يؤلف النص الشعري والغنائي ـ في الماضي ـ لم يكن جاهلا عن ثقافته الصومالية أو متجنيا ومتهكما عليها، بل كان يعرف عادات وتقاليد الأمة، لأنه تربى في كنف الأصالة الصومالية في أبهى صورها، وترعرع منذ نعومة أظفاره الحكمة والشهامة الصومالية فتغلغل حبها في أعماقه وتفاعلت مع كينونته فطبعت في وجدانه جمالية تفاصيلها ومميزاتها الخاصة التي لا يستطيع أن يتذوقها ويدرك كنهها وسحرها اللغوي الخلاب والبلاغي الآسر إلا من ارتوت نفسه من نمير الثقافة ومن معينها الذي لا ينضب، أما اليوم ومع الأديب الذي عاش وترعرع في المهجرالذي نعرفه ضعف لغته وتردى سلامة منطقه وحسه الدنيء وذوقه المتواضع في الثقافة الصومالية ومدلولاتها اللغوية والأدبية وتأثره بثقافات وموروثات حضارية وأدبية مختلفة مع تاريخنا ولغتنا التليدة، فقدَ الفن هويته وعشنا مع أغاني موحشة تكشف المستور وتهتك العرض وتخدش الحياء مع ضعف مضمونها ووهن كلماتها وضبابية أهدافها بالإضافة إلى أنها عديمة المعنى تائهة المغزى في كلماتها ومقاطعها المحزنة.

كان الشاعر ذاكرة الأمة التي لا تموت وحديقة المجتمع التي لاتذبل ورودها، وكان يمزج الحب بالجمال والحضارة بالتاريخ والكلمات الرقيقة بالشعور الجميل، وهكذا ملك القلوب وأحبه الجمهور، وسكن سحيق القلب بانتمائه الأصيل وحبه الجارف بالثقافة الصومالية بكل أطيافها وأنغامها الخالدة.
والخلاصة في هذه المسألة أن اتفاقا غير مكتوب كان يربط بين الأديب الصومالي والجمهور العاشق بالفن الأصيل، والطبيعة الخلابة، والأوقات الجميلة، مثل شروق الشمس وأشعتها الحريرية في الصباح الباكر وهي ترسل سهاما من النور لتبديد ظلمات الليل، ولم تكن روعة الشروق وحدها تبهر وتستهوي الشاعر والأديب الصومالي بل كان يسحره الأصيل وشفق المغيب ولونه القرمزي وهو فوق تلة من تلال وطن الحبيب.

ورغم قتامة الحاضر فنيا فالحياة كالدائرة الكاملة كلما تقدمت إلى نهايتها تقترب إلى بدايتها فالفن المستحدث سينتهي وأوشكت شمسه أن تغيب لتبدأ الدائرة من جديد مع الفن الراقي الأصيل وبداياته المشرقة، وبدأت أولى خطوات هذا الحلم الجميل تستيقظ من مرقدها بترميم المسرح القومي الذي قدم خيرة الفنانين وأنجب عظماء الفن وعمالقته، وبدأت الحياة تدب في أوصاله من جديد وتتدفق الدماء في شرايينه التي أصابته جلطة أدخلته في غيبوبة طالت ولكنها فشلت أن تتوقف القلوب من النبض والذاكرة من الحفظ والقلوب أن تحب والنفس أن تحلم.

حسن محمود قرني
*كاتب صومالي


تعليق واحد

  1. قديما قيل ان انحطاط الفن ليست نزعة انسانة عابرة وانما إنعكاس لوضع انسانى معين .
    وعندما سئل طه سلمان لماذا يردد الاغنيات الهابطة، قال كلام فيما ما معناه ان اغنياته ليست هابطة
    كل ما فى الامر انه يتغنى باللغة
    والطريقة التى يفهمها ويعجب بها جيل اليوم من الشباب !!
    يعنى بغنى غناء هابط لناس ذوقهم هابط . . وإتلمه الت . . على خايب الذوق
    صراحةأعجبنى فى رد طه سليمان نقطتين :
    الاولى انه فهم وعرف وحدد شباب اليوم عايزين شنو . .وهذا لعمرى شىء يحسد عليه
    والتانية انه قال الحقيقة من غير ما يقصد.