حسين خوجلي

ما يزال السبت أول الاسبوع


(1)
> القلق الذي يعيشه هذا الوزير السابق «والشلهتة» والتمزق.. واحتراق القلب بمفارقة المنصب.. يذكرني القيم التي يجب أن تتوافر لأصحاب المناصب، حتى إذا فارقوها لا يفارقهم عقلهم ولا قلبهم ولا تحتار أسرهم وقبائلهم في تدبير مستقبلهم. وهي نصيحة يجب أن تدخر لأي تعديل وزاري فقد امتحن ملك أحد المرشحين لوزارة في بلاطه:
ـ ما خير ما يرزقه العبد؟
ـ قال الوزير: عقل يعيش به.
ـ فقال الملك: فإن عدمه؟
ـ قال الوزير: فأدب يتحلى به.
ـ وقال الملك: فإن عدمه؟
ـ قال الوزير: جمال يستره.
ـ فقال الملك: فإن عدمه؟
ـ قال الوزير وقد ظهر عليه الضجر: فصاعقة تحرقه فتريح منه العباد والبلاد. اللهم أمين.. خاصة ونحن في فصل الخريف.
(2)
> من لطائف النقد الاجتماعي السوداني أن رجلاً دائم المشاكسة مع زوجته ليل نهار مع بعض الملاطفة والسخرية اللاذعة، وفي بعض أيام الخصام انتقلت إلى رحمة مولاها .. فتمت كل الاجراءات من غسيل وحنوط وتكفين وتربيط.. ولأن المنزل في حي شعبي فقد تأبي الباب الحديدي الضيف من اخراج «الجنازة» فرفعت فوقه ليتناولها نفر خارج الدار.. وأثناء رفعها أصابها «مس» من التيار الكهربائي من السلك الذي يغذي البيت الصغير.. فاذا بالكهرباء تحركها فتصيح صارخة من «الكتمة» فيسمعها الناس فيعيدونها للدار مهللين مكبرين ناثرين بعض الأقوال الصوفية والتسليمية مثل التي تقال في مثل هذه المواقف، وبعد أن خلت الدار من الفرحين والمتعجبين وأهل الطلعة «والشمارات». قامت «بت أم بلعو» ونظرت نحو زوجها المحتار وقالت بلغة ساخرة: «الحنوط دا ما بزيلوا إلا طبقة بوخة وحفرة دخان من طلح بحر أزرق». وذهبت تتبختر وتنتظر التفاتة محسوبة لزوم المزايدة «وقطع الفشفاش». دارت الأيام واحتملها صاحبنا عاماً آخر فماتت مرة أخرى.. وتمت ذات الطقوس، ولا زال باب الحديد الضيق «اللبني» الصدئ الجوانب صامداً ورفعت الجنازة بذات الطريقة، فاذا بالزوج يصرخ مستنجداً «بالله يا جماعة دقيقة.. خلوني أجيب خشبة السلك»، وفعلاً شنق سيادته السلك الكهربائي عالياً حتى خرجت الجنازة وقبرت.. وبرغم مرور عشرة أعوام على الحادثة فإن صاحبنا «لو وشوش صوت الريح في الباب يسبقنا الخوف قبل العينين»!!
مع الاعتذار لصديقنا اسحق الحلنقي والباشكاتب.
(3)
> قال لي أحد الأحباء وهو من القارئين والجامعين للتراث ونوادر الأمم وأخبارها، هل ترى أن صلابة إيران وتحديها للصلف الأمريكي والأوروبي في سبيل حقها المشروع من العلم النووي، عائد لدينها وتراثها وبرنامجها وقيادتها.. قلت له: كل ذلك بجانب مجدها الفارسي ودينها العربي أو قل الأممي وأطل مهيار:
سرها ما علمت من خبري
فأرادت أن تسأل ما نسبي
لا تخالي نسباً يخفضني
أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى
ومشوا فوق رحاب الحقب
عمموا بالشمس هاماتهم
وبنوا أبياتهم بالشهب
وأبي كسرى على إيوانه
أين في الناس أب مثل أبي
قد لممت المجد من خير أب
وورثت الدين من خير نبي
فجمعت المجد من أطرافه
سؤدد الفرس ودين العرب
(4)
> في زيارة سابقة للخليج حزنت وأحد الأحباب العرب يسألني عن المجموعة الكاملة لمحمد أحمد محجوب، فلم أجد عندي إلا «قلب وتجارب» و«مسحبتى ودني» وديوان شعر مخطوط ما زال عند تلميذه الوفي الاستاذ التيجاني الكارب المحامي والقانوني الضليع، كما علمت من أحد جواسيس الادب والمثاقفة بالمدينة. «والأخ التيجاني له الحق أن يثبت أو ينفي».. وحتى تضع الحرب أوزارها وتتفرغ الخرطوم للكتاب والقراءة والمثمر والمفيد، بعثت له بأبيات المحجوب حين سرق أحد المعارضين قلمه في الجمعية سرقة بيضاء، وكانت للمحجوب معزة وإعزاز خاص لهذا القلم، وكانت له معه ذكريات ومرافعات، فكتب راثياً القلم ومعاتباً المتعدي:
ماذا صنعت به وكان إذا جرى
نفث البيان الحر غير مقيد
قلم تحرر من قيود زمانه
ومضى طليقاً لا يدين لسيد
كالحية الرقطاء ينفث سمه
أما غضبت على أثيم معتد؟
واذا رضيت فما أرق سطوره
نثراً وابهاها عقود زمرد
صاحبته زمناً فأحسن صحبتي
وودت لو يبقى يقاسمني غدي
يا سارقاً قلمي جهلت مكانه
لا يعمل الصمصام إلا في يدي
(5)
> الحوش من الرمل الناصع.. والماء من أزيار الطين الأصلي.. وطعامعهم لا يخرج من الثلاجة. حتى إذا ما انقضى جاءوا بالمقادير جديدة في اليوم التالي .. الأصناف ليست كثيرة، لكنها مجودة.. يتنفسون هواء الصباح الطلق ويضحكون من قلوبهم ويبكون من عيونهم عكس الآخرين. يقرأون القرآن ويسمعون المديح ويطربون لأغنيات التاج مصطفي وأولاد شمبات والطيب عبد الله. يكنسون مسجد الحارة اختياراً ويعطرونه بالعطور السودانية.. لهم رأي في الصحف والتلفزيون ويكرهون السياسة. لا يعرفون قبائلهم استوثاقاً، لأنهم ما احتاجوا لذلك في أية حركة أو سكنة.
يعرفون متى يتحدثون ومتى يبتسمون. بعد كل هذه الصفات سقطوا في اجتياز قرعة الأراضي بأم درمان.. لأنهم «مساكين ما بعرفوا الدنيا».
(6)
> كان الشاعر العملاق النور عثمان أبكر أستاذنا للغة الانجليزية بأمدرمان الأهلية يقول لنا حين «يزهج» من لغة الفرنجة «أنا أحب أحمد عبد المعطي حجازي في حكاياته الشعرية لا في شعره البحت ويبدأ بصوته المجنون يقرأ:
صاحبة السمو تبدأ الغناء
فيخفت الضياء غير كوة تنير وجهها
وتبدأ الغناء «أوف»!!
قلبي على طفل بجانب الجدار
لا يملك الرغيف وتلهث الأكف
فلتحيا نصيرة الجياع
ثم تدور أعينها لتلمح الذي أصابه الكلام
وعندما يرف نور الشمس تهمس الوداع
وفي ذراعها الجديد..
يقول لنا أغلقوا يا أبنائي النوافذ وأنا سأغلق الباب
ويقول هامساً «ليست المغنية وحدها بل السياسة». وينطلق النور كالحصان الجامح بأفريقيته الوسيمة وطوله الاستثنائي وشعره المعطار، الشعر الذي لا يغفو أبداً لأنه من باب الصحو صحو الكلمات المنسية.
(7)
> في قلب الخرطوم آلاف المتسكعين لا يعرف أي أحد هل هم سودانيون أم أجانب.. بشر أم جن؟ عامة أم مجرمون؟..
الأعين تبحلق في لا شئ والسواعد مفرودة لأمر جلل.. لا يعملون ولا يتدربون على عمل.. يرفضون أية محاولة للتشغيل تحت حجة (أن هذا لا يكفي)..
عزيزي والي الخرطوم إننا نطالب ببطاقة الخرطوم التي تثبت اسم هذا وعمله وسكنه وولي أمره، فنحن قتلى أحياء ولكن من حقنا قبل أن يحدث هذا ألا يحفظ البلاغ وألا يسجل ضد مجهول..!!
(8)
> أغلب الحارات السودانية والأحياء ليست فيها حديقة عامة ولا مقهى نظيف ولا نادٍ مؤهل ولا مكتبة عامة.. الحارة السودانية اصطبل.. مكان الترويح الوحيد المساجد وهذا من فضل ربي.. ولكن حتى هذه يقودها إمام غير مؤهل وليست فيها برامج تسمح لنا بزرع فسيلة قبل قيام الساعة.
(9)
> حكى لي أحد الأصدقاء في جلسة مشهودة عن العسر الذي يجده أطفاله في قراءة المصحف (بالرسم العثماني) المتوارث، واستفتاني هل هناك ما يمنع أن يطبع المصحف بأحرف الكتابة المُتعارف عليها الموجودة في الكتب الحالية والصحف؟ قلت له ليس هناك ما يمنع بل هو مطلوب.. والمطلوب أكثر وبطريقة عاجلة أن يصبح القرآن ثقافة شعب لا ثقافة خاصة في الفهم والرسم..
قال لي إذن ما الذي يمنع ذلك؟ قلت له لأن مجالس الافتاء العربية والاسلامية ترغب في مقابلة سيدنا عثمان رضي الله عنه شخصياً لأخذ الإذن منه.. لأنها تعتقد بأن الجديد في مصالح الناس ليس إبداعاً، وإنما هو ابتداع، فالجديد عندهم بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.. وقد صدق المفكر الجزائري مالك بن نبي (إن العالم انتظر المسلمين أن يقدموا له حلولاً بالدين فتقاعسوا، فلما طال انتظاره مضى نحو غاياته بلا دين، فدفع المسلمون ودفع العالم ثمن هذا التقاعس باهظاً).