د. ياسر محجوب الحسين

الخرطوم.. حوار تنقصه الصدقية


كان الحوار الوطني الحدث الأبرز في الخرطوم الأسبوع المنصرم أو هكذا أرادت الخرطوم أن يكون حدثا إعلاميا أكثر من كونه حوارا وطنيا لإنقاذ البلاد من غرق وشيك في بحر الفوضى السياسية.. والحقيقة أن مؤتمر الحوار الوطني لم يبدأ السبت الماضي، والأصح هو استئناف لحوار بدأ منذ يناير 2014 بيد أن قطاره لم يتجاوز محطة الانطلاق حتى هذه اللحظة، وبالتالي ظل طيلة هذه المدة من دون نتائج تذكر أو ثمار تقتطف.. الزخم المفتعل الذي صاحب الانطلاقة الأولى مكن الحزب الحاكم من كسب الوقت واستمرار قبضته السلطوية على مفاصل الحكم، بل إن تعديلات دستورية خطيرة أجريت كرست السلطات في يد الرئيس البشير رئيس الحزب الحاكم.. المشكلة أن معارضي الحكومة مازالت لديهم قناعة بأن الحوار الوطني في نسخته الثانية ليس إلا محاولة للبحث عن صفقة لترميم النظام وليس لصالح القضايا القومية.
لقد شهد مؤتمر الحوار حضور الرئيس التشادي إدريس دبي، والأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي ورئيس اتحاد البرلمانات العربية.. كما حضر رجل الأعمال السعودي صالح الكامل الذي بدا حضوره غريبا لكونه مستثمرا لا علاقة له بالسياسة ودروبها إلا أن يكون ذلك بدافع زيادة الزخم الإعلامي.
إن المؤشرات والدلالات التي صاحبت الجلسة الافتتاحية برئاسة البشير لا تنبئ بإحداث اختراق يؤدي إلى تحول حقيقي في المسار السياسي في البلاد يمكن من تحقيق تطلعات الشعب السوداني.. فليست الفكرة من الحوار هي أن تحاور حلفاءك السياسيين، بل إن تحاور خصومك السياسيين، والحوار بالضرورة مقصود به الطرف الآخر الذي وصل معك حد العداوة.. فالمناخ الحالي مناخ انقسامي، إذ يشارك فيه حزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي والحزب الاتحادي الديمقراطي “الأصل” بزعامة محمد عثمان الميرغني فضلا عن عشرات اللافتات الحزبية التي تصنف موالية للحزب الحاكم ومتفاهمة معه، بينما يقاطعه حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي وحركة السلام الآن بزعامة غازي صلاح الدين والحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. فالمشهد مرتبك للغاية فبدلاً من الحوار انقسم المشهد السياسي إلى معسكرين.. معسكر الموالاة بقيادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم ومعسكر المعارضة بقيادة حزب الأمة القومي ومجموعة من أحزاب أخرى. صحيح أن معارضين يحملون السلاح كانوا حضورا وهؤلاء لهم قصة طريفة، إلا أن المجموعة التي يمكن أن تنسب إليها المواجهة مع الحكومة ليست من بين أولئك.
والقصة الطريفة أنه عندما هبطت طائرة صغيرة تحمل بعض المعارضين من حاملي السلاح عقب وصول طائرة الرئيس التشادي، رفض أولئك النزول من الطائرة بعد أن فتحت أبوابها وبعد برهة بعثوا بورقة شروطهم حيث اشترطوا حضور مدير جهاز الأمن في تشاد شخصياً ليصحبهم في سيارته حتى الفندق لأنهم جاءوا بضمانة منه. ولم يكن ذلك إلا دليلا على بعد شقة الثقة بين الحكومة والمعارضة.
والمعارضة الرافضة للحوار وجدت في مقترح الاتحاد الإفريقي بعقد مؤتمر الحوار خارج البلاد وهو ما رفضته الخرطوم بشدة، فرصة لصب الزيت على نار الخلافات المحتدمة بين الطرفين.. ولم يجد البعض سببا مقنعا لرفض الخرطوم مقترح الاتحاد الإفريقي بدعوى منع تدويل قضايا البلاد، فالحكومة نفسها تذهب إلى أديس أبابا لتتفاوض من دون كلل أو ملل في قضية جنوب كردفان والنيل الأزرق. بل إن الرفض سيقود إلى التدويل بالفعل إذ إن تحديد الوساطة الإفريقية سقفا زمنيا للبدء في الحوار مع استمرار رفض الحكومة التفاوض مع المعارضة بالخارج، سيجعل الاتحاد الإفريقي يرفع الملف إلى جلس الأمن الدولي.
ومما يؤخذ على الحكومة عدم اتباع القول الفعل، فقد كرر البشير توجيهاته بحرية العمل الحزبي وحرية الصحافة وأمر في خطابه أمام أولى جلسات المؤتمر السلطات المختصة في مختلف أرجاء السودان بتمكين الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من ممارسة نشاطها السياسي السلمي الذي يرفد الحوار ولا ينقضه وذلك بلا تدخل ولا قيد لذلكم النشاط.. لكن بُعيد تلك التوجيهات تقدمت حركة اﻹصلاح اﻵن المعارضة بطلب لدى السلطات للتصديق لقيام ندوة سياسية التي رفضت منحها التصديق شفاهة. وقبل ذلك أقدمت عليه السلطات الأمنية على منع اثنين من قيادات المعارضة من السفر، في الوقت نفسه تعلن تلك السلطات أنها قدمت الضمانات لقيادات الحركات المسلحة وإلى الصادق المهدي زعيم حزب الأمة بأنها ستمكنهم من العودة إلى منافيهم حتى إن لم يتوصلوا إلى اتفاق.
ربما لا يدرك أو يتجاهل حزب المؤتمر الوطني أن المطلوب قرارات قابلة للتنفيذ وليس خطباً ووعودا.. بل إن الفرص تتناقص أمام فتح الملعب السياسي على مصراعيه للجميع، والاحتكام لمبدأ مشاركة الجميع في صنع وتقرير مستقبل البلاد. ولا يبدو في الأفق إلا تجاهلا من الحزب لمطالب الإصلاح، بل إن هناك نوعا من الإنكار لضرورة التغيير الذي بات ملحا وحتمياً، لسد الطريق أمان أي تغيير عنيف لا يبقي ولا يذر، ولذلك فإن الحوار المطلوب لا ينبغي له أن يكون مجرد تحرك سياسي محدود بدافع مناورة قصيرة النظر.