جعفر عباس

دمي فاسد؟ الله يسامحكم


لدينا نحن أبناء الأرياف السودانية باع طويل في مجال الاعتماد على الذات لتوفير الخدمات الضرورية مثل التعليم والصحة -ليس فقط لأنّ حكوماتنا قليلة الحيلة ولكن لأنها أيضاً لا تحس بوجودنا إلا في المواسم الانتخابية- حين تعدنا بإقامة المفاعلات النووية ومصانع الشعيرية في مناطقنا، للحصول على أصواتنا، فنسحب موتانا من قبورهم والرُّضع من مهادهم إلى صناديق الاقتراع، ونصوت لباعة الوهم ثم لا نراهم بعدها إلا على شاشات التلفزيون وهم ينصحوننا بالتقشف والتضحيات.
وعلمتني التجارب ألا أتبرع نقداً لأي مشروع، إنسانياً كان أو حيوانياً أو جمادياً؛ لأنّ النقد أو الكاش سريع الذوبان مثل حليب النيدو، أي أنني أميل إلى التبرع بمواد عينية: أغذية وملابس وأدوية وأغطية بقدر استطاعتي، وأعود بالذاكرة إلى تلك الفترة التي بدأت فيها حملة التبرعات لنصرة «انتفاضة» فلسطينية محدودة، عانى بسببها سكان المخيمات الويلات، فأعلنت رفضي التام لدفع فلس واحد إلى أي جهة رسمية، ثم عثرت على منظمة خيرية طوعية أهلية تتعامل رأساً مع سكان المخيمات ودفعت لها ما تيسر، ولأن ذلك كان بالضرورة مبلغاً هزيلا فقد أحسست بالخجل إلى أن أنقذت زوجتي الموقف.
وكان طبيعياً أن تتعاطف زوجتي مع أطفال الحجارة لأنها «إرهابية» مثلهم، ولكن ما دفعها إلى التبرع هو استفزاز طفل يمني لها، ولعلكم تذكرون حكايته: فهو الذي سرق مجوهرات أمه وتبرع بها لسكان المخيمات؛ فخجلت زوجتي من اكتنازها الذهب وتبرعت ببعضه لتلك المنظمة الخيرية.
وعند آخر غارات إسرائيلية على غزة، حيث سقط الآلاف ما بين قتيل وجريج، أصرت زوجتي على اصطحابي إلى بنك الدم للتبرع بالدم. قلت لها: يا بعلتي أنا ما «عندي دم» حتى اتبرع به فاعفني من التبرع به وسأضاعف المبلغ المرصود لدعم ضحايا العدوان الإسرائيلي، ولكنها من النوع الذي يحترم حرية الرأي وخاصة رأيها، وهكذا اقتادتني إلى بنك الدم فسحبوا مني عينة وفحصوها ثم طردوني من البنك، لماذا يا جماعة؟ قالوا دمك فاسد وسيلوث أجهزتنا.. ثم شفطوا من زوجتي الدماء التي اختزنتها بفلوسي وشكروها وقدموا لها كوب عصير وسندويتشا، ولكنها لم تقصر؛ إذ قدمتهما لي ربما لأنها تعرف أن دماءها تكونت من حر مالي، ومنذ ذلك اليوم وزوجتي مغرورة وتقول: سننظم حملة عالمية لتطهير دمك من الملوثات، وتعني بذلك الفول و«الويكة» وهي البامية المجففة التي كانت أمي تنقعها في الماء وترضعني إياها عندما تكون العنزة الموكل إليها أمر رضاعتي تعاني من الجفاف!
منذ مرحلة مبكرة من العمر كنت أعرف أن بنيتي الأساسية هشة، وكنت أعتقد أنها لن تصمد أكثر من ثلاثين سنة، ولكن منذ أن يسَّر الله أمري، وصرت أتقاضى الراتب بالريال والدينار وبقية أشقاء الدولار، بدأت أتعاطى المأكولات التي كنت أراها على شاشة السينما، وتعلقت بالآيس كريم والمورتديلا؛ أي اللنشون، ثم عرفت البيتزا التي حسبتها بادئ الأمر بقايا أطعمة مستعملة جمعت عشوائياً فوق خبز رقيق، ثم عرفت الخوخ والكمثرى والكرز.
وأذكر أنه عندما أتيت إلى شركة أرامكو في أول مرة أغادر فيها السودان أعطوني في المطار ألفين من الريالات، وعلى الفور جاءني إبليس، وقال لي: اسمعني زين يا جعفر وودع الفقر وعد فورا إلى السودان على نفس الطائرة مكتفياً بهذه الثروة الهائلة، وكدت أعمل بنصيحة ابليس، لكنني اكتشفت ان تذكرة العودة ستقضي على تلك الثروة، فلعنت إبليس، والتحقت بأرامكو، واستمتعت بإنفاق ذلك المبلغ وذهبت إلى بائع فاكهة وطلبت منه كيلوجراما من «التين والزيتون»، وطبعاً أصبحت أضحوكة لأنني لم أسمع بالاثنين إلا من القرآن الكريم، ومنذ يومها وأنا أقاطع كلاهما، وربما لهذا السبب بقي دمي ملوثاً إلى يومنا هذا!

jafabbas19@gmail.com