سعد الدين إبراهيم

كنت من ثوار أكتوبر


كنا في الصف الرابع الأوسط في مدرسة أم درمان الأميرية وكانت تصلنا أصوات الهتافات الهادرة.. وكنا نتململ في مقاعدنا.. لكن زميلنا “صلاح طه” طبيب الآن.. وقف يحرضنا رغم وجود المعلم على الخروج للمشاركة في المظاهرات.. وبدأنا في الخروج.. الأستاذ لم يمنعنا ولم يشجعنا فأبدى حياداً فهمنا منه أنه يريدنا أن نخرج ولكن بمحض إرادتنا.. كان ذلك يوم 20 أكتوبر 1964، خرجنا مجموعات ولكننا انحشرنا فرادى داخل الكتل المتراصة من الجماهير التي تحمل صورة الشهيد “أحمد القرشي طه” وليس “أحمد القرشي” كما يقال.. ولم نكن نفهم دواعي الثورة.. ولكننا كنا نعي أنها أمر كبير وخطير.. ونحس بأننا زدنا طولاً.. كنا نتلفت لنرى وجوه من حولنا.. لم يكن سمتهم واحداً.. كنا نحس بأننا وسط أهلنا.. آبائنا، أعمامنا، أخوالنا، أمهاتنا، وأخواتنا.. مضينا قدماً حتى مشارف كبري النيل الأبيض واجهنا البمبان وكان الكبري مغلقاً اقتحمناه عنوة بتفريط مقصود من الشرطة، عبرنا إلى الخرطوم حتى مشارف القصر، حاول البعض تحطيم أصص ضخمة للزهور على جانبي الطريق.. زجرهم البعض.. وعلا الهتاف ثورة ثورة لا تخيب.. كان هذا ملمحاً تربوياً أطربنا هناك بقرب القصر ازدادت حدة البمبان وعلا صوت الرصاص عدنا إلى بيوتنا من مظاهرة إلى أخرى.. في الحي لم نسكت واصلنا التظاهر بين الأزقة.. وأذكر أن الشرطي الذي كان يطاردنا كان يحرضنا على دخول البيوت المفتوحة الأبواب.. فلا أوامر لديه باقتحام البيوت، لأول مرة نحس بأن الشرطي صديقنا حقاً.
أهلنا كانوا يمنعوننا من الخروج ولكن كنا نعصي الأوامر.. ونخرج للتظاهر.. في أزقة حي الاسبتالية وحتى السوق أنى تتجه فثمة مظاهرة .. أغلقت المقاهي والمحال بما أوحى إلينا بأن الحالة غير.. لم نكن نفهم معنى الثورة ولا هدف التظاهر لكننا كنا نعي بأنه أمر اجتاح الجميع.. ونحن نزحف وسط الجميع وجدنا أنفسنا أمام بيت الرئيس “إسماعيل الأزهري” هنالك وقفنا طويلاً ورددنا الهتافات التي قد لا نعي مغزاها.. نريد رؤوس السبعة الخونة.. لم نكن نعرف من هم السبعة وما هي خيانتهم لكننا كنا نهتف بحماس، فقد كنا في الرابعة عشر من أعمارنا تقل أو تزيد، بعد ذلك سمعنا بالرحلة إلى القراصة بلدة الشهيد “أحمد القرشي طه” ولم نعد نذهب إلى الخرطوم فقد اشتعلت أم درمان.
نجحت الثورة.. عرفنا ذلك من المذياع وصوت “وردي” الحلو يصدح أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقٍ.
تذكرت كل ذلك وأنا أستمع في قناة أم درمان إلى “وردي” يغني بقصيدة لصلاح أحمد إبراهيم.. يا ثوار أكتوبر يا صناع المجد.. والصور النادرة تبثها القناة لفعاليات الثورة ورموزها.. بكيت بكاءً حاراً، اندهش أبنائي واحتاروا.. قرأت في عيونهم سؤالاً كبيراً، لماذا تبكي يا أبي.. قلت لهم.. أنا رغم أنني كنت طفلاً لكنني من ثوار أكتوبر هؤلاء.. كنت أعي تماماً.. مضامين النشيد:
من نخلاتك يا حلفا للغابات ورا تركاكا
من دارفور الحرة نبيلة لكل قبيلة على التاكا
فتنهمر الدموع.. وتهطل بغزارة حينما يغني “وردي” مع “صلاح”:
لي أفريقيا نمد الأيدي أيدي شباب صادق ونبيل
ولما ينادي الوطن العربي
وحقوق المرأة الكانت ضايعة
أمسح دموعي وأهتف.. رغم أنف كل مكابر، كانت أكتوبر ثورة رغم دعاوى كل زنديق كانت أكتوبر ثورة.
ولما جف نبع الدموع ابتسمت وقلت لأبنائي بكل ثقة.. نحن أوائل من ابتدع الربيع العربي .. دعكم من خريف الإخفاق.. وشتاء الضياع وصيف التفريط..
طوبى لي فقد كنت من ثوار أكتوبر صناع المجد رغم صغر سني .. عاشت ذكرى ثورة أكتوبر الخالدة.