عبد الجليل سليمان

حوار غير منضبط “1-2”


قُلتُ تمهل قليلاً يا رجل، ولا تصدر أحكامًا مسبقة ومتسرعة، ريثما تنكشف الأمور وتنجلي غوامضها، فلربما – وعلى غير العادة – تثمر شجرته ويدر ضرعة وتمطر (مُزنته) هذه المرة، لكن يبدو أن الحوار الوطني الجاري هذه الأيام، سيجبرنا أن نقول فيه قولنا، ثم نستغفر الله لأنفسنا وللقائمين عليه (ونرفع الفاتحة).
فبغض النظر عن الأخبار التي نُفيت لاحقاً، القائلة بانخراط بعض المتحاورين في اشتباكات بالأيدي، وقبلها الملاسنات الحادة بين أطياف من طوائفه، ليست وليدة خلافات على أجندته الوطنية (المفصلية)، بل ناجمة بجانب غياب الرؤى والبرامج لكافة الأطراف المشاركة الحكومة و(حلفائها) أو الحكومة و(حلفائها المُحتملين)، عن عجز في البنية الفكرية للكيانات السياسية السودانية منذ ما قبل الاستقلال وإلى الآن، بدءاً من قدرتها على المشي بحذر بين فواصل ما هو وطني (عام)، وما هو طموح سياسي شخصي للفرد أو جماعي للمؤسسة الحزبية يستهدف (الاستوزار) أو الحيازة على السلطة التنفيذية، وربما هذا ما يفسر ظاهرة الانشقاقات الكثيرة في الأحزاب السياسية، أو خروج بعض الأفراد (القياديين) من تنظيماتهم السياسية والالتحاق بالحزب الحاكم، بمجرد أن يلوح لهم بحقيبة وزارية. مثل هذا الالتباس الناجم عن طُغيان المصلحة الشخصية على الوطنية، وتغليب الطموح الفردي على المصلحة العامة، ينتج بالضرورة (التباسات) أخرى، رفقته.
ولعلني في هذا المقام، لا يمكنني المضي قُدمًا، ويدي بعيدة عن خناق الحوار الوطني القائم، إذ ينبغي لي أن أمسك برقبته – طالما هو (حوار ووطني) معًا، أي أن لأي مواطن الحق القانوني والدستوري في التداول بشأنه ونقده وتفكيكه، والإيمان أو الكفر به، وفق حيثيات ودفوعات منطقية وعقلانية.
بطبيعة الحال، لن يسمى حواراً ذاك الذي يخوض فيه متماثلون ومتوافقون فكريًا وسياسيًا، ولن يكون بالتالي، وطنيًا ما ظل الغرض منه الحصول على منافع شخصية أو حزبية، وعليه فإن من يريد أن يتعرف على نتائج وخلاصات ما يدور قبل إعلانها (قبل انتهاء الحوار)، النظر إلى حيثياته ابتداءً من أجندته المطروحة وليس انتهاءً إلى الخلل الكبير والمخجل في طرح الكثير من المصطلحات السياسية المعروفة بمعانٍ أخرى، فمثلاً، عندما يطلقون على بعض المشاركين (شخصيات قومية)، فإن لا أحد سيفهم ذلك، حتى من أطلق عليهم هذا المصطلح، فإذا كانوا يريدون بـ(قومي) ذلك المفهوم الأيديولوجي المُحال إلى تلك الحركة الاجتماعية والسياسية التي نشأت مع مفهوم إبان الثورات الصناعية، البرجوازية، والليبرالية أواخر القرن الثامن عشر، التي تقوم على أسس وحدة اللغة والتاريخ والمصير المشترك، أو حتى لو كانوا يريدون بها المفهوم الماركسي القائل بوحدة التكوين النفسي والسوق الاقتصادية، فإن تراجي مصطفى، ومن تم اختيارهم من أهالي أبيي وحلايب يحتاجون إلى الإخضاع لمزيد من التدقيق والتمحيص حتى يكون توصيفهم بالشخصيات القومية على (مقاسهم) فعلهم، وإلا كان الأجدر والأصح أن يطلق عليهم (شخصيات مستقلة، أو، وطنية)، فتراجي ليست من دعاة القومية على حد علمي، ولا أظن أن الأشخاصي الحلايبيين والأبييين، كذلك، أيضاً، وإلا لو كانوا، لدعوا إلى انضمام كل من المنطقتين إلى مصر وجنوب السودان، أو استقلالهما تماماً. وهكذا كان يفعل القوميون الجنوبيون – فهل فهمت يا حوار يا وطني؟