الطيب مصطفى

بين د. زاكي الدين والسفير الياباني


أطباء بلادي هم في نظري أكثر فئة مظلومة ومهضومة الحقوق بالرغم من أنهم أكثر الفئات الجديرة بالمجد والشهرة والتكريم والمكانة الاجتماعية.

لو سألت أطفال بلادي عن أمنياتهم حتى اليوم عندما يكبرون ستجدهم منقسمين بين مهنتي الطب والهندسة، وكذلك آباؤهم وأمهاتهم.

الأطباء هم الصفوة أو الـ (cream) الذين يحتلون المركز الأول في مدارسهم في كل المراحل الدراسية وحتى التخرج وفي كل العهود بل هم من يدخلون جامعة الخرطوم والجامعات الكبرى بنسبة تصل أحياناً إلى 97% وبعد التخرج يخضعون لعذابات التخصص المتعذر إلا على أصحاب الذكاء والعزم ورغم ذلك تجدهم في أدنى درجات السلم الاجتماعي من حيث الشهرة .. يموت الطبيب العبقري ولا تكاد تجد له نعياً بينما الآلاف من ناس الفاقد التربوي يملأون الدنيا والفضائيات ضجيجاً وزعيقاً!

تذكرت ذلك وأنا أتأمل قصة بروف زاكي الدين.. الطبيب الإنسان والعبقري الذي قدم للسودان الكثير والذي تحكي الأسطر التالية شيئاً من سيرته، كما تذكرت عدداً من أطباء بلادي الذين طواهم الموت ولم يذكرهم أحد.

على سبيل المثال أذكر أنه قبل عام تقريباً توفي أستاذ جراحة العظام بروف عبد الرحيم محمد أحمد ولم أر له إلا نعياً واحداً في إحدى الصحف، وقبل وفاته عندما ذهبتُ لجراح العظام د. محجوب الكدقري بابني الصغير في استشارة طبية قال لي إن أطباء العظام عندما يعجزهم شيء يجتمعون لدى بروف عبد الرحيم محمد أحمد لكي يفك اللغز .. ذهبت إليه وفك اللغز في دقائق وبعدها بأشهر توفي بروف عبد الرحيم الذي لطالما صال وجال في مدرجات الجامعات وبين المستشفيات يكشف ما غمض من خبايا ويصحِّح ما اعوج من عاهات، ومات كما تموت العير فما أتفه هذه الدنيا وما أكثر الظلم في عرصاتها؟!

أما قصة زاكي الدين فقد وجدتُها في موقع محترم من مواقع التواصل الاجتماعي فاقرأوا وتأملوا:

في ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺴﺒﻌﻴﻨاﺕ القرن الماضي أمسكت ﺍﻣﺮﺃﺓ يابانية في اﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﻣﻌﺪﺗﻬﺎ متلوّية من الألم وتأوهت وشاء الله أن تنجب تلك ﺍﻵﻫﺔ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ الذي يعتبر من ﺃﻋﻈﻢ ﻣﺴﺘﺸﻔيات ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ.

– هذه ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺯﻭﺟﺔ ﺳﻔﻴﺮ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺍﺑﻨﺔ ﺍﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ .

– ﻭﺣﻴﻦ ﺗﺼﺮﺥ ﻣﻦ ﺍﻷﻟﻢ .. ﺯﻭﺟﻬﺎ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻳﺴﺘﻨﺠﺪ ﺑﺎﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﺗﻮﺟﻬﻪ ﺍﻟﻰ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺑﺤﺮﻱ.. لكن الرﺟﻞ انطلق ﺑﺰﻭﺟﺘﻪ ﺇﻟﻰ أقرب ﻤﺴﺘﺸﻔﻰ لأسعافها ..

– ﻫﻨﺎﻙ وجد ﺍﻟﺤﻴﻄﺎﻥ ﺍﻟﻤﻐﻄﺎﺓ ﺑﺎﻟﻘﺎﺫﻭﺭﺍﺕ وﺍﻟﺮﺍﺋﺤﺔ ﺍﻟﻘﺎﺗﻠﺔ .

– ﻭﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﻤﻔﺰﻭﻉ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ ﺃﻥ ﻳﺘﻜﺮﻡ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ لتخفيف ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻞ إﻟﻰ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ .

– ﻭﺍﻟﻄﺒﻴﺐ .. ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺃﺣﻤﺪ ﺣﺴﻴﻦ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻭﻳﻘﻮﻝ ﺑﻬﺪﻭﺀ :

ﻣﻌﺬﺭﺓ ﻟﻜﻦ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﻫﺬﻩ بقيت ﻟﻬﺎ ﺳﺎﻋﺘﺎﻥ .. للجرﺍﺣﺔ.. أﻭ ﺍﻟﻤﻮﺕ .

– ﻭﻟﻌﻠﻪ ﺍﻟﻔﺰﻉ ﻭﺍﻟﻴﺄﺱ ﻫﻤﺎ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ يسأل ﺯﻭﺟﺘﻪ ﻋﻤﺎ ﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﻔﻌﻞ ﻭﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺗﻘﻮﻝ: ﻧﻌﻢ .. أﺧﻀﻊ ﻟﻠﺠﺮﺍﺣﺔ.. ﻫﻨﺎ- ﻭﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻳﺠﺮﻱ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺠﺮﺍﺣﻴﺔ.. ﻭﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻳﻨﺘﻈﺮ ﻟﻴﺴﻤﻊ ﻧﺒﺄ ﺍﻟﻮﻓﺎﺓ ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺔ.. بعد ﻳﻮﻡ.. ﺑﻌﺪ ﻳﻮﻣﻴﻦ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺧﺮﺟﺖ ﺗﻤﺸﻲ ..

– ﻭﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻳﻄﻴﺮ ﺑﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻄﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﺿﺨﻢ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ .. ﻓﻬﻲ ﺍﺑﻨﺔ ﺍلاﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻳﺨﻀﻌﻮﻧﻬﺎ للجراحة واﻠﻔﺤﻮﺻﺎﺕ .

– ﺑﻌﺪ ﺳﺎﻋﺘﻴﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺍﻷﻃﺒﺎﺀ ﺗﻘﻮﻝ ﻟﻠﺴﻔﻴﺮ: أﻳﻦ ﺃﺟﺮﻳﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻭﻣﻦ ﻗﺎﻡ ﺑﻬﺎ؟

ﻗﺎﻝ: ﻓﻲ ﺑﻠﺪ ﺍﺳﻤﻪ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻭﻃﺒﻴﺐ ﺍﺳﻤﻪ زﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ.. ﻣﺎﺫﺍ ﻫﻨﺎﻙ..؟

ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﻫﺬﺍ ﻃﺒﻴﺐ ﻣﻌﺠﺰﺓ.. ﻭﻟﻦ ﻧﺘﺮﻙ ﺷﻴﺌﺎً ﺩﻭﻥ ﺩﻋﻮﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ .

– ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﻟﻠﺒﺮﻭﻓﻴﺴﻮﺭ ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺗﺄﺗﻲ إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻻﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﺍﻟﺪ ﺯﻭﺟﺔ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ.- ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻳﺴﺄﻟﻮﻧﻪ: ﻣﺎﺫﺍ ﺗﺘﻤﻨﻰ .. ﺃﻃﻠﺐ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ ..

ﻗﺎﻝ: ﺍﻃﻠﺐ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﻟﻠﺴﻮﺩﺍﻥ.

ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺣﺪﻳﺚ.

فكان أن أقامت اﻟﻴﺎﺑﺎﻥ المستشفى ﻓﻲ ﺗﺴﻊ ﺳﻨﻮﺍﺕ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺍﻟﺴﺒﻌﻴناﺕ ﻭﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺜﻤﺎﻧﻴناﺕ،

إنه ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ الذي أقيم ﺑﻤﻌﺪﺍﺕ ﺣﺪﻳﺜﺔ ﺟﺪﺍً.. ﻭﺗﺠﺪﺩ ﻛﻞ ﻋﺎﻡ.

توفي هذا الجراح القدير .. د. زاكي الدين أحمد حسين حسبما علمت قبل أشهر قليلة، فـ”إنا لله وإنا إليه راجعون”..

اللهم اجعل عمله هذا عملاً صالحاً متقبلاً..واحفظ أبناءه وصبِّر زوجه المكلومة د. ستنا.

أقول مخاطباً بروف مامون حميدة أن يكرم الرجل بما يراه مناسباً ولو بإطلاق اسمه على أحد المستشفيات الكبرى أو غير ذلك وليت د. مامون حميدة يسن سنة حسنة بإطلاق أسماء كبار الأطباء على بعض الأقسام.

اللهم ارحم بروف زاكي الدين الذي لم يفكّر في مصلحته الشخصيه فقد كان كبيرًا بقدر مساحة وطنه.

من نكد الدنيا أنني لم أجد صورة لهذا الرجل الكبير لأضعها مع هذا المقال، ولو كنت أكتب عن غيره ممن لا يبلغون معشار مكانته لوجدت مئات الصور .