د. ياسر محجوب الحسين

د. ياسر محجوب الحسين : على هدى الحوار.. هل تفعلها الخرطوم؟


مضت نحو ثلاثة أسابيع على الحوار السوداني في الخرطوم ولا أعتقد أن الناس في لهفة انتظارا لتصاعد الأدخنة البيضاء من قاعة الصداقة حيث تدور المناقشات بين “كرادلة” السياسة السودانية إيذانا بنهاية سعيدة، ولا حتى انتظارا لتصاعد الأدخنة السوداء بسبب الفشل في الاتفاق، هناك في دولة الفاتيكان يجتمع الكرادلة لينتخبوا أحدهم ليجلس على الكرسي الرسولي أو منصب البابا مدى الحياة، ويتصاعد الدخان الأبيض إعلانا بالاتفاق على أحدهم أو يتصاعد الدخان الأسود وهو ما يعني فشلهم.. لكن في الحالة السودانية يبقى الجمود سيد الموقف، فتتصدع رؤوس المواطنين بالجعجعة ولا يرون طحنا فيما تراجعت الحكومة عن موقفها الرافض لمؤتمر الحوار التحضيري الذي يتبناه الاتحاد الإفريقي المقرر عقده بأديس أبابا، حيث كانت ترفض ما تسميه بتدويل الشأن السوداني وكأن التدويل لم يحدث بعد.
ربما كان أمر تشخيص المشكل السياسي السوداني آخر اهتمامات الحوار المتعثر أصلا، وإن لم يشخص المشكل فإن الحل يبقى بعيد المنال، وقيل إن ألبرت آينشتاين كان يصرف 90% من الوقت في تشخيص المشكلة قبل البحث عن الحل. بيد أن شيئا من هذا لا يبدو ماثلا أو حاضرا في المشهد السياسي السوداني.
لو صدقت نوايا الحكومة في إشراك القوى السياسية في الحكم، فهل يصل سقفها إلى ديمقراطية توافقية نظرا لحجم التعقيد الذي يعتري خريطة القوى السياسية السودانية فهي خريطة فُسيفسائية التشكيل؟ فالتعقيد اللبناني والتونسي حُلّ باللجوء إلى ما عرف بالديمقراطية التوافقية، ورغم أنها ديمقراطية مشوهة في نظر البعض، إذ إن الديمقراطية ليست مطلوبة لذاتها بل هي مجرد آلية هي الأفضل لإدارة الدول كاملة السيادة. لكنها قد تصلح باعتبارها حلا مؤقتا لا دائما كما الحال في لبنان حيث انسداد الأفق، فبينما تتوفر في لبنان كل مظاهر الديمقراطية، إلا أن القرار فيه في دائرة صغيرة أو خارج مؤسسات الحكم مع شلل سياسي وتعطيل مصالح البلاد والعباد، ولا يتعدى سقفُ الحكومات المتعاقبة تصريف الأعمال وتثبيت الأوضاع، ولا تخدم إلا لوردات الأحزاب والطوائف حيث تكرس نفوذهم أيا كانت نتائج الانتخابات، ومن ثمّ تضعف مؤسسات الحكم.
ومنحت الديمقراطية التوافقية في لبنان لكل طائفة نصيبها المتفق عليه من كعكة الحكم بغض النظر عن أقلية أو أكثرية هذه الطائفة أو تلك، ولذا قد كان هناك توافق بين دهاقنة السياسة اللبنانية. وألّف آرنت ليبهارت كتابه الشهير باسم “الديمقراطية التوافقية في عالم متعدد” الذي صدر في بيروت حيث جاء فيه: “ولدت النظرية التوافقية من الحاجة إلى توسيع ديمقراطية الأغلبية المعهودة، أي منع الأغلبية من التسلط على الأقلية، ومنع الأقلية من تخريب الديمقراطية ذاتها بحجة وجود أغلبية تستبد برأيها”.
السؤال والديمقراطية التوافقية على علاتها، هل تتنازل الحكومة السودانية أو حزب المؤتمر الوطني الحاكم طوعا عن هيمنته على الحكم؟ وهل تتحلى بروح المسؤولية والعقلانية السياسية لتجنب الخيارات الأسوأ؟. رغم ريادة الإسلاميين في السودان في تجربة الحكم إلا أن تجربة حركة النهضة التونسية أضحت نموذجا للنضج السياسي. ونشير هنا لقول عبد الفتاح مورو أحد قادة حركة النهضة في برنامج شاهد علي العصر بقناة الجزيرة: “إن حركة النهضة التونسية تأثرت بالريادة الفكرية للدكتور حسن الترابي في قضية تحرير المرأة لفكره التقدمي ومعرفته بالأصول”، فحركة النهضة رغم اكتساحها للانتخابات فقد ارتضت نهج تغليب الشرعية التوافقية على الشرعية الانتخابية، لأن الواقع التونسي لا يحتمل هذا التصدر. وكان موقف رئيس الحركة راشد الغنوشي تغليب “مصلحة الوطن” على الكسب الحزبي، ذلك لأنَّ السلطة بالنسبة للحركة لا تمثل غاية في حد ذاتها بل وسيلة، فالرجل ظل يؤكد: إن خسرت النهضة بعض مواقعها فقد كسب الوطن، وأن يربح الوطن أعظم من أن تخسر الحركة. وقال: “تعلمنا ألا نستخدم قوة الدولة في فرض توجهاتنا، لذا لم نطالب بتطبيق الحدود، أو إلغاء السياحة، أو فرض الحجاب، وتركنا كل ذلك لحركة المجتمع لتقرِّر بشأنه.
وكان بوسع حركة النهضة التمترس في الحكم بمبرر سياسي قوي، وهو الشرعية الانتخابية، ولكن ثمن ذلك سيكون مكلفا كثيرا للبلاد وللمسار الديمقراطي المترنح وقتها، أي تعمق الصراعات السياسية ودفع الأمر نحو الفوضى والعنف.
ربما تتعاظم أحلام البعض ويتخيلون موافقة الحزب الحاكم برئاسة عمر البشير على قيام فترة انتقالية يؤول فيها منصب الرئاسة وفاقاً إلى فرد مستقل، أو إلى مجموعة من أفراد مستقلين. وفي حالة تمسك البشير بمنصبه يبقى في موقعه رمزاً لرأس الدولة يتولى المراسم الرئاسية والرعاية العليا لأمانة سير الانتقال ويشرف على استكمال مشروع الحوار القومي الذي بدأه، مع ضرورة إجراء تعديلات دستورية تفوّض كل سلطاته التنفيذية والتشريعية الموكلة له بحكم الدستور الحالي إلى مجلس الوزراء الانتقالي.
ووفقا لتلك الأحلام يتشكل مجلس الوزراء الانتقالي قومياً بأن يتوافق الجميع على عضويته ويشتمل على تمثيل رمزي سياسي وإقليمي وعلى شخصيات مستقلة ذات كفاءة واهتمام بقضايا حكم الوطن. وسعيا لتراضي الأحزاب تمثل القوى السياسية كلها في المجلس التشريعي (برلمان الفترة الانتقالية)، فضلا عن تمثيل حركات المعارضة المسلحة سواء في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.