جعفر عباس

حشف وسوء كيلة حتى في اللغة


عندما يتحدث مسؤول رفيع عن «الأحياء الراقية» في هذه المدينة أو تلك، وتصبح العبارة متداولة على الألسن، فإنه وبحكم أن أكثر من 97% من أهل المدن (سيبك من أهل القرى) لا يقيمون في تلك الأحياء، ليس من الشطط القول إن هذه الأغلبية تعيش في أحياء هي نقيض «الرُّقي»، أي هابطة ومتخلفة وبدائية، وبالتالي فإن أحياء عريقة في عاصمتنا مثل السجانة وبيت المال والحلفايا «متخلفة»، لأن المقاييس المختلة التي نحكم بها على المساكن، لا تنطبق عليها،
يعني سكان الأحياء العريقة، وأصحاب الجلد والرأس في مدننا، متخلفون لأن معظم بيوتهم كما معظم بيوت أهل السودان، ليس فيها سيراميك ولا مكيفات هواء سبليت ولا طوابق علوية، وهكذا فإن مفردة بسيطة مثل «راقي»، يتم تحميلها معاني ومضامين سالبة واستفزازية للأغلبية.
وعلى سبيل المثال، فإن جيل آبائنا كان عندما يتكلم عن الحلفايا كان يعني «بحري»، لأن الخواجات، وعندما توسعت الخرطوم، سموا أجزاء منها حسب الاتجاهات الجغرافية، فصارت هناك الخرطوم شرق والخرطوم جنوب، وكان ذلك بعد أن أدرك الإداريون الإنجليز ان الاستمرار في ترقيم الامتدادات الجديدة في الخرطوم (اكتفوا بالخرطوم 1 و2 و3)، لن يكون ذا معنى فوضعوا مخططات تحمل تسميات حسب موقعها الجغرافي من الخرطوم «الأصل»، وكان نصيب الامتداد الشمالي لها هو «نورث» بالإنجليزية، وتعني «شمال»، ولكن العامية السودانية كانت تقول بحري وقبلي لتعني «شمال وجنوب» على التوالي.
فهل من الذوق في شيء نفي الرقي عن الحلفايا وبيت المال وحي العرب وحلة حمد وتوتي، وغيرها التي أنجبت وأنتجت كل ما هو «راقي» في مختلف مجالات المعارف والمعازف والثقافة؟ وتصبح كافوري والمنشية والدوحة هي أنموذج الرقي، رغم افتقارها لعنصر «العراقة»، وفقط لأن كلفة بيوتها عالية (بالمليارات)، ولو كانت كلفة البناء العالية هي ميسم الرقي، فإن حي الشعبية في بحري، أرقى من شيكاغو، لأن التكاليف الإجمالية لبيت واحد في الشعبية، تعادل تكاليف بيتين في شيكاغو (كما قال وزير التخطيط العمراني في ولاية الخرطوم قبل عامين).
ووصف بعض مناطق المدن بـ»الشعبية»، دارج في كل بلاد العالم، ووصف بعضها بأنها فاخرة وفخمة تأسيساً على شكل مبانيها أيضا دارج، ولكن «راقية / سيفيلايزد / civilized)؟ يطرشني، واختلال دلالات مفردة مثل «راقي»، نجد الدليل عليه في لغتنا اليومية، فرغم أن حي بيت المال العريق مثلاً، لا يوصف بـ»راقي»، إلا أنك تسمع كثيراً القول إن سكان بيت المال «راقين»، والمقصود هنا أنهم ذوو سلوك متحضر ويعرفون «الأصول» ومهذبون.
ولكن وبنفس المعيار المختل، قد توصف فتاة بأنها متحضرة وراقية لأنها «لبيسة» وتأكل بالدبوسة، وبعامية العصر «متشنكحة»، وتسمع أهل شاب يعتزم الزواج يقولون له «ألبس هدوم كويسة. خليك راقي»، مع أن العبارة تعني ضمنا أنه «راقي مؤقتاً» ويرجع لـ»أصله» بمجرد خلعه الملابس الأنيقة وارتدائه العراقي والسروال.
نحن نحكم على الأشياء بمظهرها الخارجي، وعندما كانت في الخرطوم فقط شركتان للنظارات الطبية (الأهلية، وموريس غولددنبيرج)، كنت ضمن أقلية محظوظة في نظر الناس لأن بؤس حال عينيّ استوجب استخدام نظارة طبية، قال عني كثيرون إنني صرت «مثقفاً»، وعندما شيدت بيتا في الحاج يوسف، (وأنا مغترب)، عايرني بعض أقاربي بالزعم بأنه لا يليق بمغترب «متحضر» أن يسكن في الحاج يوسف، رغم أنهم كانوا يعرفون أن حلم حياتي قبل الاغتراب كان امتلاك بيت في الحاج يوسف حيث يقيم العشرات من أقاربي، وتمت ترقيتي الى مرتبة تحتمس وخوفو وترهاقا ودونالد ترامب عندما شيدت بيتاً في حي «راقي» في بحري، رغم أنني أحس وأنا في ذلك البيت أنني في المكان الخطأ.