جعفر عباس

كره ونفور واستهجان (1)


أكره لاعب القمار أكثر من كرهي لمتعاطي المخدرات، وأكره القواد أكثر من كرهي للعاهرة، وأكثر ما يضايقني في كرة القدم هو “الجمهور” وليس اللاعبين، فالجمهور هو الذي حول أندية كرة القدم الى “أصنام” وأضفى عليها قداسة، وقد يطلق رجل زوجته لأنها هللت لهزيمة الفريق الذي يشجعه، وقد يقتل شخص آخر بسبب هدف أحرزه هذا الفريق أو ذاك.
وهل ينسى سوداني كيف بدأت معركة الجزائر ومصر في أستاد الخرطوم كمباراة في كرة القدم، ثم انتقلت الى الشوارع حرباً بالعصي والحجارة والأسلحة البيضاء، ودخل المعركة غوغائيو الإعلام المصري، وجعلوا السودانيين طرفاَ في “العدوان الآثم” على لاعبي المنتخب المصري ومشجعيه، ثم كان ما كان من أمر سقوط عشرات القتلى خلال مباراة بين الأهلي و”المصري” في بورسعيد، وتبعها صدور أحكام بالإعدام على أكثر من عشرين شخصاً.
كيف يعادي شخص سويٌّ شخصاً آخر، فقط لأنه يشجع نادياً آخر لكرة القدم، أو لأن فريقه خسر مباراة- دعك من أن يلحق به الأذى الجسماني- كنت يوما ما من المهووسين بعشق فريق المريخ، لأنه وبقيادة حسن أبو العايلة، كان أوركسترا، ترقص على إيقاعاتها الجماهير. كان هناك برعي وعبد الله عباس وماجد ووزة وابراهومة وكمال عبد الوهاب وسامي عز الدين وسينا، ولكنني كنت أطرب لمعزوفات لاعبي الهلال: جكسا وصديق منزول وامين زكي ودريسة، بل وكان يدهش أصدقائي تشجيعي الصادق لنادي الموردة في عصر عمر التوم وعمر عثمان والمحينة وعلي سيد احمد، وفي الأندية الخرطومية كنت معجباً بنجم الدين ويوسف مرحوم، وأتحمس لنادي التحرير البحراوي نفس حماسي لنادي المريخ، وباختصار كنت كغيري أحترم كل لاعب متميز بغض النظر عن اسم النادي الذي ينتمي إليه، ولما صار الولاء الكروي أعلى شأناً وأقوى من الولاء الوطني، لم يعد يهمني حتى لو هزمت بطاريق القطب الجنوبي منتخب السودان الوطني.
وأكره الدجالين والمشعوذين أكثر من كرهي للمقامرين ومدمني المخدرات، فالمقامر يخرب بيت نفسه وبيوت شلته فحسب، والمدمن يدمر نفسه وربما يستدرج معه نفراً قليلاً الى الهاوية، أما الدجال فضحاياه يكونون بالمئات أو الآلاف، وفي سودان اليوم صار عدد الدجالين أكثر من عدد المطربين والمطربات، علما بأن كل حي و”فريق” في السودان حقق الاكتفاء الذاتي في مجال الطرب، واحتكر من دخلوا الميدان مبكراً كل الألقاب البراقة: الامبراطور والسلطان والست والأميرة، وبدأنا في ترقيمهم فصار عندنا طلال الساتة (نسبة الى الحارة السادسة في الثورة)، ولو كنت مطرباً خرطومياً لاخترت اسم جعفر الستين (نسبة لشارع الستين أفضل شوارع عاصمتنا رصفاً بارك الله في عائلة النفيدي).
معركتي مع الدجالين بدأت وعمري نحو عشر سنوات، عندما أصبت بحمى شديدة لازمتني عدة أيام فأتوا برجل كتب على صحن أملس كلاماً “خارم بارم”، ورسم عليه نجمة داوود والصليب المعقوف للنازيين، ثم أتى بماء وغسل تلك الخزعبلات وطلب مني ان أشرب عصارة كلامه ورسوماته، فرشفت منها جرعة وأفرغتها مع بعض محتويات بطني لا إرادياً في وجهه، فانتفض غاضباً وانهالت أمي علي ضرباً بالشبشب (وكان شبشباً منتهي الصلاحية ومدججا بالمسامير لمنع تفككه) وصاح الدجال: ده ولد شيوعي.. والشيطان لن يبرح جسمه أبداً.
وضاعفت أمي له الأجرة حتى يمنع الشيطان من الإقامة الدائمة في جسدي، وبعد دلال وتمنع قبل الرجل ان يدخل في مفاوضات مع الشيطان ليقنعه بأن “يحل عن سماي”، وجاء في اليوم التالي ليجد طلباته جاهزة: مبلغ إضافي وديك أحمر وكمية من السكر والشاي، ولسوء حظي كانت الحمى قد فارقتني وقتها، واعتبرت أمي أن جهوده أثمرت في إقناع الشيطان بالرحيل عن جسدي وازدادت اقتناعاً ببركاته، وازددت كرهاً له.


‫2 تعليقات

  1. مبدع يا ايو الجعافر والإبداع لا وطن له سيبك من الستين ومن الساتة …

  2. كانك يا ابو الجعافر تمسك بالافكار بين اصبعيك قبل ان تمسك بهما قلمك. لا نحب ان يفوتنا مقال واحد من مقالاتك.