داليا الياس

أوجاع الميري 1-3


دائما ما نقرأ أخبارا على شاكلة: (مدير مدرسة يقضي ليلة الخميس والجمعة داخل مكتبه بصحبة تلميذته.. طبيب يبيع أدوية منقذة للحياة في مستشفى حكومي بأسعار فلكية.. محامٍ يتلاعب بمستندات تخص ورثة من الأيتام.. مهندس يغش في حديد بناء إحدى العمارات فتنهار وتزهق الأرواح….. إلخ.).. والكثير المثير من هكذا بلاغات وحكاوي تنشرها الصحف يوميا في حق كل المهن في بلادنا.. وتعتبر هذه البلاغات المنشورة في الصحف أخف وأقل كارثية من تلك التي لا تنشرها الصحف ولا يعرف الإعلام عنها شيئا أو يعرف ويتغاضى.
أدراج رجال التحري مليئة بالأسرار والبلاغات التي يشيب لها الرأس!.. سجلات المباحث تكتظ بالفضائح والقصص الغامضة لكل فئات المجتمع.. ورغم ذلك لم نسمع من قبل هجوما على وزارة التربية والتعليم والمعلمين بسبب فعل ذلك المدير.. ولم نسمع هجوما على وزارة الصحة والأطباء بسبب الأخطاء الطبية القاتلة وفساد بعض الأطباء.. ولم نسمع هجوما على نقابة المحامين ولا المجلس الهندسي بسبب فساد يمارسه بعض المحامين والمهندسين..!!
لكن الشعب كله يثور ويشتم ويصب جام غضبه على الشرطة حين يخطئ شرطي فيها و(تقوم الدنيا وما تقعد)!!!
الشرطة السودانية هذا الجهاز العظيم بكل تاريخه الذي فاق المائة عام من البذل والعطاء والتضحية.. لا يرضى عنها الشعب الذي ظل طيلة عمره يربط بين الشرطة والنظام.. لماذا يا ترى؟
لماذا لا ينظر المواطن لشرطي المرور الذي يقف في الشمس بالساعات يستنشق أبخرة عوادم السيارات واقفا للأمطار والأتربة والصقيع والحر ويستقبل وجوها لا تعرف الابتسام ولعنات من جميع مستخدمي الطريق.. إن لم يسبوه في سرهم شتموه في وجهه.. وقيادته تأمره بالابتسام لأن الناس تشكو تكشيرته.. هل تعلمون أن الدولة تصرف له راتبا أساسيا لا يتعدى الستمائة جنيه بعد التعديل الأخير؟؟
أليس أكرم له أن يقود ركشة أو مركبة تستر حاله وترحمه من لعناتكم وظلم الدولة وتريحه من استعدادات لا تنقطع تحرمه أسرته وأهله وساعات راحته يقضيها في غسل ثياب بيضاء اقترحتها الدولة لرجل يقضي يومه في الشمس والتراب؟
ذات حال شرطي المرور ومثله شرطي الجنايات الذي يقضي يومه كله في سماع مشاكل الناس وصراخهم داخل الأقسام.. لا أحد يبتسم له في وجهه.. الجميع ساخطون.. زنازين متسخة ومجرمون عتاة وروائح كريهة وتنفيذات قبض مرهقة ومداهمات تعرض حياتك للخطر وتسمع فيها الشتائم القذرة وسب أبوك وأمك في وجهك.. وتتعرض لمقاومة شرسة جدا وقد ينتهي يومك بجريمة قتل لتذهب الجثة مشوهة يرفعها ويرافقها من المشفى حتى المشرحة وتطارده رائحتها في طعامه وشرابه وانفاس زوجته.. ماذا تمنحه الدولة؟ سبعمائة جنيه؟؟ ماذا يعطيه الناس؟؟ سبابا ولعنات فقط؟!..
كذلك رجل المباحث هو عميل وخائن وجاسوس ولا أمان له!!.. يقضي يومه في التحريات وجمع المعلومات ووقته ليس ملكه.. في بحث دائم عن الجناة والمعتادين والمحتالين.. يجوب الأوكار ومنازل الدعارة والخمور ليحصل على خيط صغير لجريمة كبيرة.. هدف أساسي للمجرمين والمعتادين.. يحمل روحه في كفه.. أمنه مهدد وأسرته مهددة والدولة تمنحه ذات السبع ورقات!!
يقضون أياما في الصحاري والوديان يطاردون عصابات المخدرات والتهريب التي تبادلهم بذات سلاحهم وتقود ذات مركباتهم ولا تعرف الرحمة.. ماذا تمنحهم الدولة؟
يشاركون القتال في مناطق العمليات جنبا إلى جنب مع القوات المسلحة.. يقدمون أرواحهم رخيصة فداء للوطن ومن يعد منهم إما معاق جسديا أو نفسيا من حرب لا تتوقف.. ماذا تمنحه الدولة؟؟ إن استشهد فستضيع اسرته التي لو كانت محظوظة فستصرف مستحقاته بعد أعوام والتي لا تبلغ قيمة ركشة جديدة.
لماذا تكرهونهم وهم من يضحي لأجلكم؟
لماذا تسبونهم وتشتمونهم وهم من يحمي عرضكم ومالكم؟
لماذا تصفونهم بكلاب النظام وهم بين مطرقة النظام وسندان الشعب؟
هل هم من صنعوا قوانين المرور والنظام العام؟؟
هم رجال ينفذون هذه القوانين ولا سلطة لهم في تعديلها أو انتقادها.
هل تطالبونهم بخلع هذا الزي وترك المهنة؟
سيحدث ذلك قريبا ولكم أن تتخيلوا معي ماذا سيحدث حينها.. لكم أن تتخيلوا أن صحف هذا الصباح خرجت عليكم بمانشيت كبير بالأحمر يقول (الشرطة تضرب عن العمل)!!
اليس الاطباء يضربون عن العمل بحجة ضعف رواتبهم وهم يشاهدون حاجة المرضى لهم في المشافي؟
تخيلوا أنهم اضربوا عن العمل جميعا وخرجتم للشوارع وجدتموها خالية من شرطة المرور والنجدة ورجال المباحث ورجال السجون!
كيف ستخطو خطوات بسيارتك لإسعاف مريض أو احضار دواء أو الذهاب لعملك؟
كيف ستترك أسرتك ومنزلك لوحدهم؟
كيف ستمشي في الأسواق؟
كيف ستفتح متجرك؟
كيف ستعمل البنوك والصرافات والمؤسسات والمنشآت والأسواق؟
كيف ستواجه المجرمين الفارين من الحبس؟
كيف وكيف وكيف سيكون ذلك اليوم؟؟
تخيلوا الإجابة… وغدا نواصل.
* نزار العقيلى -الكويت
شرطى سابق