عبد الجليل سليمان

الشيوعي.. قابل للنقد والتغيير


بإمكان التنظير المحض (الأكاديمي) أن يقول بكفاءة ودقة: إن الديمقراطية كنسق فكري وطريقة للحكم، يمكن أن تُسمى آيدولوجيا، لكنها في الواقع تظل أقل الأيدلوجيات دوغمائية (تعصباً)، كونها تتوفر على ميكانيزمات ذاتية تجعلها أكثر مرونة وقابلية لاستيعاب الأفكار الأخرى النقيضة وإعادة إنتاجها بحذق ومهارة ضمن النسق المدني لإدارة الدولة – أي دولة.
ولكن هذا يتطلب – أن تخفض الأيدولوجيات الأخرى، جناحيها قليلاً كي تمرعبر تجاويفهما ريح الأفكار النقيضة لها، وبالتالي يحلق الجميع بسلام في هذا الفضاء الواسع دونما تسجيل لحادثات ارتطام واصطدام – إلا ضمن الحيز الذي تتحرك فيه آليات النظام الليبرالي بشكل ميكانيكي ذاتي.
وفي هذا الصدد، ينبغي لنا الإشارة بوضوح إلى توصيفنا للديمقراطية بأنها أقل الآيدولوجيات تعصباً، لم يأت عن فراغ، وإنما لكونها تقترح نظاماً يتوفر على قدرة هائلة على تحويل النزاعات الفكرِّية الصلبة إلى سياسة مرنة، قابلة للتداول بشأنها، قبولاً أو رفضاً، أو تنازلاً أو تسوية، فيما تعجز الإيديولوجيّات الأخرى الدينية والاشتراكية والقوميِّة عن فِعل ذلك.
وبالعودة إلى حادثات الشيوعي السوداني الأخيرة، فإن ما يحدث يكشف عن غيبوبة – تستدعي الإحالة إلى – العناية المكثفة – فكيف لحزب كبير، دعك عن عسف مراكز القوى فيه تجاه مناهضيها من دعاة الإصلاح وإطاحتهم وفقاً للوائح الحزب الداخلية المتآكلة والخربة، والتي يتحدثون عنها وكأنها مقدس وغير قابل للتغيير، كيف للشيوعي أن لا يتأثّر إلاّ قليلاً بانتهاء الحرب الباردة، وكيف له أن لا يشعر تالياً أنّ لغته انتكست، وأن أداءه السياسي والفكري وهن وضعف، وأن مساهماته في المعرفة والثقافة صارت صفراً على (يسار) الجماهير.
لا تزال، كابينة الشيوعي ترزح وتئن تحت قبضة الحرس القديم، الذي لم، ولن يستطيع المغادرة من متردم أنساق العمل التنظيمي والفكري والسياسي التي كانت سائدة أوائل خمسينيات القرن المنصرم من لدن (هنري كوريل) ورفقته الميمونة آنذاك، ومروراً بعبد الخالق ونقد وإلى الخطيب الراهن، لن يستطيع المغادرة من ذاك المتردم الضارب في (الزرقة والارتحال) إلا وأن يعترف بأن أوان التغيير حان، وأن مخاصمة الواقع تفضي إلى الجنون ومن ثم الهلاك، فإما حزب يؤمن بالديمقراطية ويمارسها داخل خلاياه ومنظوماته أو لا، فليس ثمة طريق ثالثة.
بطبيعة الحال بل والأحوال الماثلة في الشيوعي، فإن ذلك لن يحدث قريباً، وربما لن يحدث أبداً، وبالتالي سيظل الحزب محض لافتة بشعار مثل (يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا)، وخلف تلك اللافتة يجلس (العواجيز) متكئين على (عكاكيز) الماضي العريق، ينتجون للراهن وللغد خوازيق جديدة.
ولأنه لا فرار من الحقيقة إلاّ إليها، فإن الشيوعي، ذلك الحزب الكبير والعظيم، الذي دفع إلى هذا الوطن بنساء ورجال قلّ من يناظرهم ويماثلهم بين الكيانات السياسية الأخرى، سياسيين نظيفي الأيدي يؤثرون على أنفسهم من أجل وطنهم، ومثقفين ومفكرين ومبدعين ملء الأبصار والأسماع والأفئدة، يحتاج إلى إصلاحات جذرية ليس في قيادته فحسب بل حتى في طريقة أدائه السياسي.