مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : الأنا وسلوك القطيع


كي يرتقي الشخص بصفة الانتماء إلى مجتمعه الصغير أو الكبير، ويبتعد في الوقت نفسه عن سلوك القطيع، يحتاج إلى إرادة قائد وعقل حكيم و»أنا» انتقائية غير تابعة.
وسلوك القطيع في جانبه الجاذب يتمثّل في حصول الشخص على التأييد لموقفه وتحقيقه لمصالحه الشخصية مستندا على الآخرين كما هي الحال عند القطيع، وكذلك اتخاذ قراراته اليومية بناء على معارف وخبرات الآخرين.
أما في جانبه السلبي والذي يسبب أضرارا بالغة فيتمثل في تعطيل الشخص لتفكيره وتقاعسه عن اتخاذ قراره الشخصي بذوبانه في الآخرين، ثم تعريض نفسه للأخطار والتي تصل لدرجة الموت كما يحدث في أعمال الشغب والتخريب.
فبمجرد أن يشعل أحدهم فتيل الاحتجاج على أي شيء، يقوم الآخرون بتقليده دون النظر أو التريث أو التفكير فيما دعاه إلى هذا الفعل.
واتخاذ هذا القرار المعلّب كي يكونوا ضمن الجماعة، يضيّع على هؤلاء، فرصة أن يفكّروا في اتخاذ قرار أفضل منه وأسلم.
وإذا رجعنا إلى الإطار الفكري لـهذه الأنشطة، فسنجدها قائمة على أبرز تجليات نظرية القطيع، للعالم وليم هاملتون، في تركيزها على جزئية تحفيز العقل الجمعي، حيث يظهر مجتمع موقت مكون من كائنات منصاعة لفعل الآخرين.
أظهر عدد من البحوث أنّ الأشخاص الأقل مركزا أو تأثيرا يميلون إلى تقليد من هم أعلى منهم، أو أكثر تأثيرا من دون تفكير.
والأمثلة على ذلك كثيرة، وتزيد عندما تتماهى الحدود في المجتمع.
ومن أمثلة «سلوك القطيع»، في عالم الاتصالات والتقنية الحديثة مثلا، نلاحظ قيام الأشخاص خاصة في مجموعات التواصل الاجتماعي بتمرير رسالة أو نشر موضوع دون التأكد من صحته ومصدره، فقط لمجرد أنّ مرسلها طلب إرسالها لأكبر عدد ممكن.
وكذلك في الردود والتعليقات على أحد الموضوعات نجد أنّ أغلب الأعضاء يجمعون على رأي واتجاه المجموعة دون التبصّر أو تكوين رأي شخصي وموضوعي.
وفي تداول الأسهم وأسواق البورصة كذلك ركّز المحللون على أنّ أكبر الخسائر التي تحيق بالمضاربين هي نتاج هذا السلوك، واتخاذ القرار وفقا لما يفعله المتداولون دون دراسة لاتجاهات السوق.
وليست البورصة وحدها وإنّما تستغل بعض شركات التسويق هذه النزعة الحيوانية في الترويج للمنتجات وتحقّق من ذلك ربحية عالية جدا.
فبالرغم من أنّ عملية «البيع والشراء» هي عملية منفعة متبادلة بين المُنتِج والمستهلِك، إلّا أنّ الشركات تتفنن في انتهاج أساليب تسويقية بإقامة عروض السلع المخفضة والتي تكون في المقام الأول لزيادة ربحيتها.
وتقوم طريقة العرض في السوق المعين على حيلة ذكية جدا وهي جذب الزبائن إلى هذه السلع، وأغلبهم يقودهم الفضول لمعرفة السعر ومعاينة المنتج، ولكن ما إن يقوم البعض باختيار هذه المنتجات مدفوعين بالسعر المغري، حتى يتبعهم الآخرون دون النظر وفحص المنتج أو حتى التفكير في مدى حاجتهم له.
أمّا الموقف المقابل لسلوك القطيع هو ما يحققه المثل القائل «فلان لا في العِير ولا في النَّفير» والذي يُقال لمن لا يصلح لمُهِمٍّ، فالعِيرُ هي عِيرُ قريش التي أَقبلت مع أَبي سفيان من الشَّام.
والنفير هو مَن خرج مع عُتبة بن ربيعة من مكة لاستنقاذها من أيدي المسلمين، فكان ببدر ما كان، وما بينهما ممن لم يكن في أحد الجمعين أي لم يكن مع القافلة ولم يكن في الحرب، قيل فيه هذا المثل.
وما بين السلوكين يبقى أنسب موقف يمكن أن يتخذه الشخص هو الوسطية المنحازة إلى الاستقلالية، المبتعدة عن شطط سلوك القطيع وبرود وخمول هؤلاء الذين لا هم في العير ولا في النفير.
عندها يتجلى موقف الحكمة، ويبرز صوت الأنا المعبّرة عن الشخص، والواثقة من قراراتها، والمعزّزة لقيمة انتمائها في الوقت نفسه.