الصادق الرزيقي

خلافات الشيوعيين ..!


> الخلافات داخل الحزب الشيوعي السوداني، ليست جديدة. فمنذ نهاية الأربعينيات عندما تم تجنيد أول خلية للحزب من الطلاب السودانيين وبينهم عبدالخالقق محجوب، في القاهرة على يد اليهودي هنري كورييل، انفلقت حبة الفول الماركسة لم تتوحد فقد كانت هناك مجموعات أخرى اعتنقت الماركسية اللينينية في ذات الوقت واتخذت مساراً مختلفاً، وهو الخلاف الذي بدأ مبكراً بين الطالبين عبدالخالق محجوب وعوض عبد الرازق، وعندما بدأت تتشكل عرى الحزب في الخمسينيات لم يسلم من الانشقاقات ففصل عوض عام 1954ومن معه، ثم فصل قاسم أمين ومحمد السيد وأحمد شامي بعدهم بسنوات قليلة، وبلغت تلك الخلافات ذروتها منتصف الستينيات ثم مطلع التسعينيات بخروج كوادر وقيادات مهمة خاصة بعد انقلاب 19 يوليو 1971م وإعدام قيادات من الحزب بينهم سكرتيره العام.
> لكن خلافات الشيوعيين المعلن والمعروف عنها والمستتر، الكثير منها طمره التاريخ ولم تظهر بصورة جلية للعلن، خاصة عندما يكون الحزب تحت الأرض ومندساً عن المشهد السياسي العام، لكنه ظل منكفئاً على خلافاته وانشطاراته، وقد سعى الكثير من قياداته التاريخية في عهد سكرتيره العام السابق محمد إبراهيم نقد إلى تخفيف صدمات الخلافات حتى لا تعصف بأحد أكبر الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث، كما كان يوصف في الستينيات من القرن الماضي، لكنها بالفعل عصفت به وظل منذ 1971م حزباً يعيش على تاريخه القديم ويأكل من سنامه التنظيمي وكوادره تتلاشى وتندثر حتى صار أطلال حزب مندرس يتململ في جدثه قبل أن تحرر له شهادة وفاة.
> ولا خلاف اليوم بين كل المراقبين للشأن السياسي والمعايشين لمسيرة الحزب الشيوعي السوداني، في أن ما وصل إليه حال الحزب ليس نذير زوال فقط، بل أن انصرافه من الساحة السياسية والفكرية يتم على طريقة الموت البطيء دون أن تدركه (فجة الموت) ليصحو برهة ثم يغيب. فالحياة العامة تمضي وتحدياتها تتضاخم ولم تعد هناك فكرة شيوعية واحدة تصمد في وجه القضايا والمشاكل الوطنية، ليقول فيها الحزب مقالاً..لأنه وهو موجود صار مجرد أيقونة في المتحف السياسي بلجنته المركزية والقيادات من كبار السن التي عندما ذهبت قبل أشهر إلى برلين للمشاركة في أحد اجتماعات المعارضة ومنتدياتها تحت رعاية ألمانية، حيا ممثل الحزب العجوز دون أن يطرف له جفن دولة (ألمانيا الديمقراطية الإشتراكية)، معلناً عن الغيبوبة السياسية والفكرية والفاصل الزمني الذي يفصل قيادة الحزب الجديدة عن الواقع وتطوراته، فالعذر أنى له أن يتوفر لقيادة حزب تعيش على هامش حركة الزمن والتاريخ؟!..
> أما لماذا ظهرت هذه الأيام الخلافات الداوية التي أدت لوقف وتجميد نشاط عدد من قادة الحزب وهم (د.الشفيع خضر، حاتم قطان، د.محمد سليمان، فيصل بشير، هاشم تلب).. فليس السبب الوحيد إنهم أرادوا أن يخرجوا رؤوسهم من ظلمة التابوت المسجى فيه الحزب التليد، إنما لأسباب أخرى هي الأكثر رجاحة، فالحقيقة لم يعد هناك حزب شيوعي بالمعنى المعروف، لا في البناء التنظيمي أو الأطروحة السياسية، فضلاً عن شُح الكادر الذي كالدخان تبخر في الأرجاء.. فقد توزعت الكثير من كوادر الحزب في دروب الحياة وطلقوا الفكرة ومن بقي منهم احتضنته المهاجر البعيدة أو الحركات المتمردة والأحزاب الطائفية والتقليدية، وانتسب الكثير من درى أو لم يدرِ لما يعرف حالياً باليسار الأمريكي..
> فكثير من كوادر الحزب الشيوعي التي لجأت للغرب الرأسمالي في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا، ومن هاجر منهم إلى استراليا، خانوا الفكرة والتوجه ونالوا بجدارة شارة الانتماء للمشروع الأمريكي سدنة وخدمة بارعين، ظهرت مواهبهم في نوع وسرعة الواجبات التي أدوا فروضها للسياسة الأمريكية ومصالحها حول العالم..
> وسبق أن أشرنا إلى أن كوادر الحزب وقياداته التي يممت شطر الغرب لعبوا أدواراً مخزية في التماهي والتباهي بانتظامهم في سلك السياسيات الامبريالية الغربية وخاصة الأمريكانية، دون وزاع من التزام سياسي عقائدي سابق، فكلما أمعنا في النظر لقضايا السودان والمنطقة لوجدنا إن هذه الكوادر أسهمت في مفاقمة وزيادة صب الزيت على النار، وتلك حالة جديرة بالدراسة المتعمقة والفحص الدقيق..
> ما يجري دخل الحزب الشيوعي هذه الأيام نتيجة طبيعية وصراع توافرت فيه كل شروط حدوثه، بين أجيال وقيادات ناهضة تريد ميراث الحزب وبين الشيوخ وكبار السن الذين ينتظرون قيام دولة البروليتاريا في خريف أعمارهم فقط بتلويحة من عصا سحرية مخبوءة في الغيب الذي لا يؤمنون به.. فلربما تأتيهم أعلام الماركسية ذات يوم مرفرفة والحزب على صهوة جواد من خيال لذيذ..