احلام مستغانمي

ها هو ذا سجن الكديا في قسنطينة


أتأمّله كما أتأمّل جدران سجن أوّل، دخلناه كما ندخل حلمًا مزعجًا لم نكن مهيّئين له. مرّت سنوات كثيرة، قبل أن أدخل سجنًا آخر، كان جلّادوه هذه المرّة جزائريّين لا غير. ولم يكن له من عنوان معروف، ليعرف طيف امّا طريقه إليّ ، فيأتيني كما كانت تأتي لزيارتي هنا في الماضي، باكية متضرّعة لكلِّ حارس..
ها هو ذا سجن الكديا.. كم من قصص مؤلمة، وأخرى مدهشة عرفها هذا السجن، الذي تناوب عليه أكثر من ثائر، لأكثر من ثورة.
عام 1955.. أي بعد عشر سنوات بالضبط من أحداث 8 ماي 1945، عاد هذا السجن للصدارة، بدفعة جديدة لسجناء استثنائيين كانت فرنسا تعدّ لهم عقابًا استثنائيًّا.
في الزنزانة رقم 8.. المُعَدّة لانتظار الموت، كان ثلاثون من قادة الثورة ورجالها الأوائل، ينتظرون موثَّقين، تنفيذ الحكم بالإعدام عليهم، بينهم مصطفى بن بولعيد والطاهر الزبيري ومحمد لايفا وإبراهيم الطيّب رفيق ديدوش مراد وباجي مختار وآخرون.
كان كلّ شيء معدًّا للموت يومها، حتَّى إنّ حلّاق مساجين الحقّ العام، أخبر الشهيد القائد مصطفى بن بولعيد في الصباح، أنّهم غسلوا المقصلة أمس، وأنّه حلم أنَّهم «نفذوا».
وكانت هذه الكلمة تحمل معنيَيْن بالنسبة لمصطفى بن بولعيد، الذي كان يُعِدّ منذ أيَّام خطّة للهرب من الكُديا.. وكان قد شرع مع رفاقه منذ عدّة أيَّام، في حفر ممرّ سرّيٍّ تحت الأرض، أوصلَهم في المرّة الأولى إلى ساحة مغلقة داخل السجن. فأعادوا الحَفر من جديد، ليصلوا بعد ذلك إلى خارج السجن.
يوم 10 نوفمبر 1955، بعد صلاة المغرب، وبين الساعة السابعة والثامنة مساءً بالتحديد، كان مصطفى بن بولعيد ومعه عشرة آخرون من رفاقه، قد هربوا من الكديا، وقاموا بأغرب عمليّة هروب من زنزانة لم يغادرها أحد قبل ذلك اليوم.. سوى إلى المقصلة.
بعد ذلك سقط القائد مصطفى بن بولعيد وبعض من فرّوا معه، شهداء في معارك أخرى لا تقلّ شجاعة عن عمليّة فرارهم، فتصدّروا برحيلهم كتب التاريخ الجزائري، وأهمّ الشوارع والمنشآت الجزائريّة، بينما نُفّذ حكم الإعدام، في من ظلّوا بالزنزانة، دون أن يتمكّنوا من الهروب.
ولم يبق اليوم من السجناء الأحد عشر الذين هربوا من الكُديا، سوى اثنين على قيد الحياة. ومات الرجال الثمانية والعشرون الذين جمعتهم الزنزانة رقم ثمانية يومًا، لقدَرٍ كان مقرّرًا أن يكون.. واحدًا.
كلّما وقفت أمام الجدران العالية لهذا السجن تبعثرَت ذاكرتي، وذهبتُ لأكثر من وجه، لأكثر من اسم، ولأكثر من جلّاد، وشعرت برغبة في فتح أبواب سجون أخرى ما زالت مُغلَقة على أسرارها، دون أن تجد كاتبًا واحدًا يردّ دَيْن من مرّوا بها.
” ذاكرة الجسد ”