تحقيقات وتقارير

جرفتها سيول الثقافات الغربية وأصابتها حمى المباهاة:(أعراس السودانيين) .. (زفـــة) بلا هوية


في صالات مغلقة أنيقة تنثر فيها الألوان و صخب يحرك ردهات المكان بموسيقى يختلط فيها الشرقي بالغربي .. وسط ذلك الفرح المصنوع ثمة ملامح أفريقية ضائعة تارة تجدها تتمايل مع طرب الغرب وأخرى مع الشرق كمحاولة للدخول في ثقافات يرون فيها الجمال دون أن يدركوا قبح التقليد .. إنها أعراس السودانيين التي أضحت (زفة بلا هوية)، توارت فيها (العديل و الزين) وغيرها من الطقوس التي تم إقصاؤها بأمر المباهاة والبذخ .. لماذا ينساق السودانيون وراء ثقافات الغير؟ وهل هناك هشاشة في الموروث الشعبي؟ عبر هذا التحقيق نسلط الضوء على بعض التقاليع الغريبة الوافدة لأعراس السودانيين التي جرفتها سيول الثقافات الأخرى و حمى المباهاة**

أستاذ اجتماع: ضعف الشعور بالمواطنة عامل محفز لاكتساب أنماط ثقافية غير مقبولة

أستاذ علم نفس: الطبقة المقتدرة تبحث عن إشباع حاجاتها النفسية بشتى الطرق

رقصة الإسلولي
مواقع التواصل الاجتماعي صارت ساحة عرض لكل جديد الأعراس السودانية، فيديوهات عديدة تظهر فيها أنماط جديدة.. عروس تتشبث برقبة عريسها وتلتصق به تماماً وتتمايل مع موسيقى غربية أو عربية فيما يعرف بـ (اسلولي)، أي الرقص على أنغام هادئة، ومعروف انه أحد طقوس الزواج في الدول الغربية.. و ما بين الاستغراب و الدهشة و الاستنكار صار هذا الرقص أحد طقوس الزواج السوداني الذي غادر (صيوانات) الأحياء و احتمى بالصالات المغلقة، على أساس أن هذا التحول هو مرتبط برقي الأسرة و ضعها الاجتماعى مما جعل حلبة سباق الأعراس منافسة مختلة الموازين، حسب ما كشفته لنا المواطنة (سلوى) التي تزوجت قبل عام بذات الطريقة المذكورة.. سلوى لم تكن تخطط لزواج عصري كما اسمته، و لكنها وجدت نفسها محاصرة بأسئلة الناس من حولها خاصة رفيقاتها، اللائي كن يتحدثن إليها عن الصالة التي تجري فيها مراسم الزفاف و أي نوع من الأغاني ترقص عليها هي و زوجها، رسمن لها مخطط زواج خارج استطاعتها، و كانت أيام الزفاف حسب قولها أشبه بحالة صراع نفسي، أن تفعل هذا أو لا تفعل، و من أجل أن يخرج زواج (سلوى) حسب المخطط العصري باعت و الدتها قطعة أرض سكنية، لتغطي بها تكاليف العرس التي بدأت من إمارة دبي حيث ذهبت الأم وابنتها لشراء مستلزمات (الشبكة) من هناك، وبعد الانتهاء من مرحلة الشبكة دخلت الأسرة في تجهيزات المنزل، ثم بدأت طقوس (رقيص العروس) زهاء شهر كامل كانت العروس (سلوى) تتمايل مع طرب (الدلوكة) و (أغاني البنات)، حتي أجادت الرقص، وقبل حفل الزفاف بيومين، استأجرت أسرتها صالة مغلقة وأقيمت فيها حفلة الرقص، ثم اعقبتها حفلة الزفاف، بطقوس غريبة ومكلفة، وبعد الإنتهاء من الزواج لم يبق لسلوى وأسرتها غير الديون، حتي أنها لم تتمكن من السفر لقضاء شهر العسل كما كانت تخطط، وبدأت رحلة زواجها الأول بالدين هي و زوجها.
آوت دور
(آوت دور)، هي إحدى تقليعات أعراس السودانيين الجديدة، حيث يقوم العروسان قبل بدء الحفل بالتقاط الصور خارج الاستديو، و هي عادة سائدة بدول الغرب، و يختارون مناظر طبيعية لالتقاط صور زفافهم ولكن هذا التقليد اختل هنا و تم نسخه بطريقة مشوهة، و التقاط الصور علي الطبيعة صار ذا تكلفة عالية، و بلغت في أماكن حولي (3) آلاف جنيه سوداني تدفع فقط ثمن لقطات علي مساحة خضراء يمكن أن يتم أخذها في أي مكان، و لكن حسب النسخ المشوه لم يفهم كثير منهم معنى الـ (آوت دور) و دخلوا في مأزق التكلفة الباهظة التي تمت إضافتها لقائمة الصرف البذخي في أعراس السودانيين.
خفة العروس
مما لاشك فيه أن حرمة الأعراس باتت منتهكة، لأن وسائل التواصل الإجتماعي لعبت دوراً في نشر فيديوهات الأعراس.. أحد مقاطع الفيديو المنتشرة عبر تلك الوسائل هي فيديو لزفاف سوداني بموسيقى غربية صاخبة (روك) تظهر العروس في الفيديو هي و عدد من الفتيات يرقصن بصورة هستيرية، و كأنهن في (حلبة زار)، أي رقص بلا وعي علي أنغام طبول تثقب الأذن.. هذا الرقص يستنكره كثير من السودانيين لاعتبارات أن العروس في ليلة زفافها لأبد أن تحافظ علي حيائها، و أن الرقص بصورة ملفتة يعتبره البعض (خفة) غير مرغوب فيها.. ذلك الهرج يتم عبر ما يسمي (مخرج حفلات الزفاف) و التي يعمل فيها عدد من الشباب يجهزون كل مستلزمات الليلة بتكاليف عالية، و يختار العروسان نمط الزفاف الذي ينويان إقامته.
تلاقح ثقافات
ما يحدث في أعراس السودانيين جعلنا نطرح عددا من الأسئلة وهي: هل الشخصية السودانية ذات تركيبة ثقافية هشة تجعلها تمتص ثقافة الغير بسهولة؟ .. أم أننا نركض وراء الإنسلاخ من هويتنا و تبني ثقافات أخرى نرى فيها الجمال؟ .. تلك الأسئلة وغيرها وضعناها أمام الدكتور (أشرف أدهم) أستاذ علم الاجتماع و الأنثر بيولوجي ، بجامعة النيلين فتحدث قائلاً:
«الموقع الجغرافي للسودان يعتبر إستراتيجيا فهو متلقى لكل القارات المحيطة به بالإضافة لموارده الطبيعية الجاذبة لكل من ينشد الاستقرار، هذا الوضع الجغرافي جعل السودان قبلة للعديد من الثقافات المجاورة و الوافدة من أماكن بعيدة، وهذه الثقافات تلاقحت مع ثقافات السكان المحليين و أنتجت ما يعرف بالثقافة السودانية و التي كانت وما زالت لها سماتها التي تميز السودانيين عن غيرهم من جيرانهم، بالتالي تشكلت الشخصية السودانية لتستوعب الثقافات الوافدة بمرونة و تأخذ منها ما يتناسب مع البيئة المحيطة و تتخلص من الجوانب التي لا تتسق مع المزاج المحلي إلا أن هذه الشخصية تميزت بانها لديها القدرة علي امتصاص الثقافة الوافدة والتماهي معها، لذلك علي الرغم من محافظة الثقافة السودانية علي كيانها الرئيس إلا إنها تشهد عناصر جديدة باستمرار مع العولمة و سياستها الرامية لطمس الثقافات المحلية و نشر ثقافات أخرى تعتبر عالمية، كان المجتمع السوداني بيئة خصبة لاستيعاب المتغيرات السريعة التي تنشر عبر آليات العولمة و المتمثلة في (الميديا) بأنواعها المختلفة بالإضافة لأن هناك عوامل محلية داخل المجتمع السوداني ترتبط بالسياسة والاقتصاد حيث أن عدم الاستقرار السياسي و الاقتصادي وضعف الشعور بالمواطنة يعتبر عاملا محفزا لاكتساب أنماط ثقافية غير مقبولة في الأحوال الطبيعية، لذلك نلاحظ في مناسبات الزواج أنماطا كثيرة ومتنوعة يمارسها السودانيون في مراسم الزواج و التي تعبر أحيانا عن الصرف البذخي و أحيانا أخرى عن التفاخر ، وهذه التصرفات ترجع لمحاولة التعويض النفسي الذي يحاول بعض أفراد المجتمع الحصول عليه من خلال هذه التصرفات، إلا أن هذا السلوك ينعكس سلباً علي إقبال الشباب على الزواج لان هذه الممارسات التفاخرية، تضعف حافز الزواج لدى غالبية الشباب والشابات خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية المتدنية التي يعاني منها المجتمع السوداني».
تشخيص نفسي
حديث دكتور (أشرف أدهم) تشخيص إجتماعي لما آلت إليه عادات الزواج في السودان و التي ابتعدت عن سيرة (العديل والزين) التي يملؤها فرح صادق و عفوي، والجلوس على (عنقريب الجرتق)، بجوار الخالات و العمات ووجه العروس المتدثر بـ (فركة القرمصيص)، فلماذا تخلينا عنها؟! .. حالة الهوس بالتغيير و إقصاء الموروث الشعبي في الزواج قادنا لطرق أبواب علم النفس، وسؤال: (لماذا انساقت الشخصية السودانية وانجرفت مع تيار الثقافة المتدفقة دون هدى؟ .. دكتور (نصر الدين أحمد إدريس) رئيس قسم علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية وضع تلك الشخصية تحت مجهره و تحدث قائلاً:
«المجتمعات عادة تتكون من جماعات وأفراد وهم الركيزة الأساسية لكل مجتمع وكما أن الأفراد ترتبط شخصياتهم بطبيعة ونمط التنشئة من التربية والتنشئة الاجتماعية وبالتالي تعد مخرجات تلك التنشئة الاجتماعية عامل حسم لما يحدث بعد ذلك، فان التنشئة الاجتماعية تعبر عن القيم فكأننا نتحدث عن دائرة تغلق على طرفين (طرف القيم والتنشئة). أما فيما يتعلق بالمجتمعات فهنالك تباين وطبقات ومستويات فالمستوى الاقتصادي والثقافي يلعب دوراً في تصنيف و ترتيب المجتمعات، و لذلك فان التغيير الاجتماعي الذي يحدث في أي مجتمع لابد أن ننظر إليه من خلال تباينات المجتمع وهذا يعني أن التغيير يختلف من طبقة لأخرى من حيث سهولة و صعوبة التغيير ومن حيث نوعية الجزء الذي يحدث فيه التغير (القيم)، أما في واقعنا الآن فان هناك عوامل جديدة تساعد في عملية التغيير أهمها (الإعلام الجديد) الذي احدث سهولة في انسياب المعلومات والثقافة عبر الوسائط المختلفة، فيما يتعلق بالجزئية التي نحن بصددها لابد أن نشير إلى أن هذه العادات الدخيلة على المجتمع لا ترتبط بكل فئات المجتمع وطبقاته ولكنها محصورة في فئة محددة وطبقة (مقتدرة) تبحث عن إشباع الحاجات بشتى الطرق حتى إذا اختلفت تلك الطرق مع الثقافة الراسخة مع المجتمع، فسمة هذه الطبقة هي الانبهار و السطحية و مخاطبة الحاجات (الدنيا) وهي طبقة لديها القابلية للتأثر بالآخر أكثر من بقية الطبقات

تحقيق: سلمى سلامة
الراي العام


تعليق واحد