عبد الجليل سليمان

التفكير خارج الصندوق


ليست (ماري جيوفاني) وحدها من طرحت الموضوع أعلاه على الهواء الطلق، لكن كتابها البديع (التفكير خارج الصندوق) كان ولا يزال محفزاً لكثيرين ممن وضعوا عقولهم رهينة لسلطة ما (مجتمع، حزب، أسرة)، لا يستطيعون التفكير دون إيعاز منها، فيصحون دمى (عرائس) تتحرك داخل الصندوق بفعل يد خارجية، إذ ما انسحبت عنهم فقدوا عقولهم وأصيبوا بالجنون.
الأحزاب السياسية السودانية كلها، دونما استثناء، تعتقل (عقول) منسوبيها في صندوق ما يُسمى اللوائح والنظم الداخلية، ومع التأمين على ضرورتها وأهميتها من ناحية إدارية وتنظيمية فقط، لكنها على مستويات أخرى لا قداسة لها ولا نفاذ، فلا ينبغي أن تُعظم وتُقدس حد اعتبار الخروج عليها (فكرياً) كُفراً بواحاً يستدعى شد الوثاق وجز الرقاب.
تُحاول الأحزاب السياسية إخفاء سوءاتها بخندقة أعضائها داخل صندوق اللوائح النظم، ظانة أن ذلك يدرأ عنها النقد ويصد عنها رياح التغيير، ويحجب عن الآخرين تسوسها وتآكلها و(فسادها) أيضاً، وهي بالتالي تعيق تقدم التيار النقدي التطويري بداخلها ومن ثم تطيح به خارج التخت الحزبي، مدعية أنه خالف النظم واللوائح وفارقها فراقاً بائناً بينونة كبرى، بينما الحقيقة على عكس ما تدعي.
الكابينات القيادية للأحزاب السياسية السودانية، فاسد فكرياً، ودكتاتورية، ومستبدة، لا فرق بينها – على هذا المستوى – وبين من تدعي مناهضتهم للسبب نفسه، فجل الأفراد والمجموعات الذين خرجوا أو أُطيح بهم من أحزابهم، لم يُفعل بهم ذلك لأنهم خالفوا اللوائح التنظيمية، بل لأنهم خرجوا من (الصندوق)، وحرروا عقولهم و وجدانهم واعتقوا رقابهم من أسره المُبين، وقرروا مُغادرة تلك الطواحين الأبدِّية التي تنتج الطاعة العمياء للقيادات والخوف منها وإدمان العمل بنظام (السُخرة) لمصالح (الزعماء) الشخصية، كل ذلك بجانب الإصابة بالعجز والنرجسية.
تعرف ماري جيوفاني الصندوق بأنه نمط سلوكي يجعل الإنسان حبيساً له ويحد من رؤيته للفرص وإحساسه بالمشاعر واستمتاعه بالمغامرات التي تزخر بها الحياة. لكن عندما يتمكن المرء من التحرر من تلك الصناديق التي يعيش بداخلها، تتغير حياته نحو الأفضل.
والحال هذه، فإن على جميع منسوبي الأحزاب السياسية السودانية، إذا أرادوا تطوير ديمقراطية تداولية، وآليات نقدية بناءة داخل أحزابهم، عليهم التمرد على مستويات ثلاثة، أولها قيادات الأحزاب كونها ليست آلهة تُعبد حتى يقدم لها الفرد عقله وروحه قرابين، ثم تغيير (هُبل) الأحزاب، وهو ما تسمى باللوائح التنظيمية بسحب (الماء الزائد) عنها حتى تعود (لوائح) بالفعل وليست مقاصل ومشانق، يعقب ذلك إزاحة تدريجية للآيدولوجيا حتى تأتي أسفل (درج) مهام الحزب السياسي، فمهمة الحزب الحديث هي طرح برامج متسقة مع طبيعة والدول والحكومات، إذ إنه يصبو إلى (إدارة) الدولة عبر حكومة، لذلك لابد له أن يكون منسجماً مع أحلامه، وإلا سيفشل. و لا شك أن طبيعة (الدول والحكومات) مدنية ديمقراطية، تُدار وفق خطط وبرامج (سياسات) تنموية بأسقف زمنية محدودة بناءً على مبادئ وقيم الشفافية والعدالة الاجتماعية، والمحاسبية والرقابة وفعالية الأجهزة والمؤسسات. لذلك فإن الخروج عن الصندوق هو بداية الطريق نحو حياةٍ سياسية وحزبية وشخصية أفضل.