محمد محمد خير

بيوت الصحفيين


هذه الزاوية لا تنتقص من قدر الدكتور محي الدين تيتاوي فهو زائد بلا نقيصه، ولا تقلل من شأن الرزيقي فهو مرتفع المنسوب حتى في أوان القحط، وعطفاً عليهما فإن الزاوية تشيد بمثابرات الفاتح السيد مهنياً ونقابياً، وتعيد أمجاد الرعيل النابه عمر عبد التام والشنبلي ومحمد عبد الجواد ومحمود محمد مدني وحيدر طه، وكل الأماجد، رعاه تفرهد الحرف وحرّاس المهنية.
سددتُ، قبل شهر، الدفع المقدم لمنزل الصحفيين لصالح خزينة صندوق الإسكان، وتسلمت خطاباً للمهندس المقيم بالمشروع ليقوم بتسليمي المنزل المخصص لي في منطقة “دار السلام” غرب أمبدة، وبعد سوق ليبيا على الحدود المتاخمة لولاية شمال كردفان.
اتصلت بالمهندس الذي حدد لي موعداً للاستلام، غير أنه أشار لي بأنه ليست بحوذته عربة وعلي أن أقابله في مكتبه الكائن بمدينة الصفوة المكنات “بالصفيراء” ليعود معي لدار السلام ثم يصبح لزاماً عليَّ أن أُعيده لمكتبه “بالصفيرا”. قبلت العرض وعبأت عربتي بالوقود اللازم وبدأنا قطع الفلوات كي نبلغ ذلك السراب البعيد.
حين تجاوزنا سوق ليبيا وتركنا الشيخ أبوزيد خلفنا واختفت قطعان الخرفان المهولة صرنا في مواجهة الصحراء؛ كثبان تتموج بلا عواصف وفراغ يسدّ البصر وجبل على يمين الشارع يتكوم خجولاً، ونباتات بدائية نابتة في غير ما تربة، وطيور جوارح تبحث عن جثة دون جدوى ومازلنا نسير ولا شيء غير هذه المفازة.
صعدنا مرتفعاً عالياً من غير كبري على جنباته ينعدم أي مظهر من مظاهر الحياة المعاصرة”، انتابني إحساس شديد بأنني الآن في مرحلة ما قبل الحياة، وقَوَّى هذا الإحساس مشاهدتي امرأة تسير وحدها في تلك الفلوات تخيلتها أمنا حواء تبحث عن آدمها!!.
تذكرت تصريحاً منسوباً لأحد القيادات باتحاد الصحفيين يشير إلى أن الاتحاد سيخصص قطعة أرض للشاعر الراحل محمد الفيتوري، سألت الله مخلصاً أن لا تكون قطعة الأرض في هذا المكان، لأن الفيتوري لو أصبح من سكانه سيرتد لمرحلة تجاوزها شعرياً حين قال، وكأنه يقصد هذا المكان:
حَدَّقت بلا وجهٍ ورقصت بلا ساق وزحمت براياتي وطبولي الآفاق
بدا لي أن الصحفيين سكنوا في هذا القفر فإن الصحف لا محالة ستعود لصحف أسبوعية أو سيتحولوا من صحفيين على الديسك إلى مراسلين، وما أقسى مهمة أن تكون مراسلاً من الصحراء!!.
كان المهندس على مستوى الموقف حين حييته فرَدَّ لي “حمد لله على السلامة”، لأول مرة أحس بأن العبارة تتطابق مع الموقف وتنبثق منه، ركب معنا وعدنا من جديد لغرب أمدرمان وكانت المشاهد المطروحة على امتداد الطريق تعيد بداية الخليقة وتمر بسير أجدادنا القدماء على طريق الماضي المعاصر.
وصلنا الموقع الذي تتشابه بيوته لحد الاستنساخ بما يوضح طبيعته الاشتراكية؛ فكل المساحات واحدة غير أن مساحات الصفوة أكبر بقليل من دار السلام، ما أعجبني في هذا الترتيب التساوي بين الصحفيين في دار السلام والتمييز الإيجابي في الصفوة بما يؤكد أن لا فرق بين صحفي وصحفي إلا في الصفوة.
حين فتح المهندس الباب ودخلنا المنزل وجدت عائلة تسكن، عائلة بكامل عتادها الأسري ومعداتها من “كانون ومزيرة” حاول المهندس أن يعتذر لي عن هذا الخطأ غير المقصود غير أنني قلت له : “إن منازل الصحفيين دائماً ما يسكنها القراء”.