الصادق الرزيقي

قبل أن تجف دماء باريس


> هجمات باريس التي تبانها تنظيم داعش، مع استنكارنا وشجبنا لها، تحتاج إلى قراءات عميقة أكثر غوراً من مجرد التنديد والغضب والتضامن مع فرسنا كما تفعل دول قوى كثيرة في العالم. فأرواح الضحايا الـ«129» شخصاً ومئات المصابين، والصدمة العنيفة التي حلَّت بالشعب الفرنسي، يجب أن تدفع الحكومات ومراكز الدراسات الدولية والمفكرين الاجتماعيين المخططين الإستراتيجيين، لمعرفة أبعاد هذا العنف وإلى أين يقود، بعد أن دخلت خيله المدن الأوروبية وفتحت فوهات الجحيم على شعوبها..
> قبل أن يتحدث الناس عن العنف والإرهاب البشع بكل صوره وأشكاله، لابد من التدقيق بروية في منشأ وأسباب توالد وتواجد الشباب الأوروبي الغاضب، والشباب القادم من جهات مختلفة من العالم، ويشعر أن الغرب خاصة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية هي سبب الظلم والقهر والخراب الذي دفعهم للهجرة والفرار من أوطانهم وإحالتها إلى ركام..
> إذا نظرنا إلى كل الحركات والمجموعات التي تُصنَّف من جماعات العنف والإرهاب في العالم، سنجد وراءها ألف ذريعة جعلت معتنقي منطق العنف والقتل ينتهجون هذا الأسلوب، إما للدفاع عن أنفسهم، أو الانتقام لما أصابهم وأصاب بلادهم ودمرها. فالغرب المتوجع القلب والدامي الجسد والمثخن بالجراح، هو الذي تسبب في كل ما يجري. فالحروب التي شنوها على الشعوب المظلومة المقهورة واحتلالها، والملايين من الضحايا في أطراف العالم بنيران الحروب الأمريكية والأوروبية التي حدثت خلال ربع القرن الأخير وبعد الحادي عشر من سبتمبر، وموالاة الغرب للأنظمة القمعية الفاسدة التي قهرت الشعوب واستعبدتها، فاقم من فوران الغضب والرغبة في الانتقام لدى الفئات العمرية الصغيرة التي ضاع حاضرها ومستقبلها وسط أصوات الصواريخ والمدافع وأزيز الطائرات وقنابلها والتفجيرات والدماء والأشلاء. فاليأس والظلم والإحساس بالقهر السياسي والفكري، هو الذي دفع الكثيرين من الشباب خاصة القادمين من مناطق العالم الثالث والعالم الإسلامي إلى اعتناق أفكاراً موغلة في التطرف والتشدد، وتُرى أن الغرب منطلق في حربه الحضارية الشاملة دون هوادة لا يردعه قانون ولا شرعية دولية ولا أخلاق، يفعل ما يريده حتى ولو سالت دماء الأبرياء والمدنيين أنهاراً وبحاراً..
> العنف لا يولِّد إلا عنفاً.. والظلم لا يخلِّف إلا انتقاماً وكراهية، والقهر ينجب الرغبة المتوحشة في إيلام الآخر وتصفيته.. وهذا منطق الأشياء وطبيعة الحياة، فما يجري اليوم وبهذه الوحشية التي نراها وندينها، هو ردة فعل عنيفة وطائشة على ما ظل يقوم به الغرب وهو يحمد أحقاده وبثور كراهيته للشعوب المقهورة وتاريخها ودورها الحضاري، ولا يأبه لها..
> فظاهرة العنف الدموي أو ما يسميه الغرب (الإرهاب)، وهو مصطلح مقصود به الإسلام في المقام الأول وليس المقصود به شيء سواه، وهي ظاهرة تحتاج إلى مزيد من التفسيرات والتعريفات الدقيقة قبل أن نرددها نحن في عالمنا الإسلامي ويرددها إعلامنا ويفتي فيها علماؤنا، لأننا بالفعل كمجتمعات بسلوكنا ومعتقداتنا وصحيح ديننا لا علاقة لها بالعنف والإرهاب، لكن الغرب هو من جعل هذه الظاهرة تنمو وتتكاثر ثم ترد الجائحة عليه..
> على الغرب قبل سكبه للدموع وهي مستحقة لما أصابه من طعنات نجلاء داخل قلبه من جراء الهجمات على الأبرياء، أن يفكر بهدوء وبروح المسؤولية في تغيير إستراتيجياته التي تقوم على محو الآخر والبطش به وتدميره، كما فعلت الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر، فالتلويح فقط بمنطق القوة ودق طبول الحرب والتهديد والوعيد لعدو متوهم ليس هو الحل، الحل يكمن في تعزيز الحياة الكريمة والتزام موجبات الحرية والديمقراطية، والمساواة وحقوق الإنسان بديلاً للعنف والقهر. والمساعدة في جعل النهضة الاقتصادية والاجتماعية ممكنة وميسورة، وفتح الآفاق أمام التعاون الإنساني بين شعوب كوكبنا الموبوء بالحروب، عن طريق نشر التعليم وإتاحة فرصة وتبادل التكنولوجيا من أجل راحة الإنسان وليس من أجل سلبه حقوقه ونهب ثرواته وجعله موطئاً تحت النعال..
> إن اختار منطق صدام الحضارات لا تحاورها، ومحاولة طمس الثقافات لا التعامل معها، ومنطق الهيمنة والاستعلاء لا منطق التعاون والترافق والتعايش، سيجلب المزيد من أعمال العنف وسيجعل عالمنا عالماً لا يطاق..
> صوت العقل يجب أن يعلو فوق كل صوت، فها هي فرنسا التي تملك أفضل وأقوى أجهزة أمنية في أوروبا مدربة لمحاربة العنف والإرهاب، تضرب بقوة وبشاعة، وسط اخفاق كبير في منع الجريمة قبل حدوثها او حتى تقليل نتائجها الوخيمة، فلا سبيل لمكافحة العنف إلا بتحجيم أسبابه ومنع توالده وصناعة بيئة مواتية للانفتاح والحوار بين الحضارات والثقافات.. وإلا فالكارثة ستقع مهما فعلنا..