مصطفى أبو العزائم

منورين


كلما تعقدت أمور العالم الإسلامي الاقتصادية والسياسية، كثر الحديث عن أن المشكلة دينية، وأن ثورة تنويرية في الإسلام هي الحل الناجع. ويتحدث البعض عن مقارنة حروب الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا وعلاقتها بالتنوير على الرغم من أن حركة الإصلاح في الكنيسة التي قادها مارتن لوثر، من خلال

أعماله الفكرية الضخمة (1517)، كانت قبل حروب الثلاثين عاما بقرن تقريبا. حيث استمرت الحرب في الفترة من (1618 – 1648)، وأدت في النهاية إلى سلام وستفاليا أو معاهدة وستفاليا التي أسست لشكل النظام الدولي الذي نعرفه الآن.

نعم هناك علاقة بين تلك الحرب والدين، ولكن لم يكن الدين هو الجزء الأكبر فيها، بل كانت السياسة وعلاقات القوى. هذه بداية اختلاف أولي بين من يظنون أن حروب المذاهب القادمة ستكون نتيجتها تنويرا إسلاميا. ولديّ أسباب عدة لتشاؤمي هذا، أساسها الاختلاف الجوهري بين صراع البروتستانت والكاثوليك في عالم ما قبل الدولة الحديثة، أي «ما قبل وستفاليا»، وصراع هذه المذاهب في نظام عالمي تحكمه الدول وليس الملل والنحل.

الأمر الثاني، الذي بني عليه عنوان المقال، هو فارق الرغبة في الانتقال من ظلمات القرون الوسطى إلى النور والحداثة، وتلك كانت عملية طويلة استمرت إلى عصر الصناعة وعلمنة المجتمعات، هذه الرغبة غائبة عند المسلمين اليوم، شيعة وسنة، خصوصا العرب منهم لأنهم جاءوا ضحية تطور لم يكونوا طرفا فيه. فأسس العلوم الطبيعية التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من طيران وبلوغ الفضاء الخارجي وثورة الاتصالات والمعلومات والمعرفة، كلها أمور يتمتع العربي بنتائجها من طيران وطب واتصالات، ويظن في حالة كذب على النفس أنه صانعها، وأنه منور جدًا ولا يحتاج إلى تنوير! وفي الحالة المتطرفة يظن البعض أنهم «منورين» زيادة والمطلوب هو العودة إلى عالم الظلام لا عالم النور. العربي اليوم لا يحتاج إلى المعرفة ولا التنوير لأنه يظن أنه يعرف، وأنه منور أصلا ولا يحتاج إلى تنوير.

النقطة الثالثة، وهي فلسفية فيما يخص الأصول، فإذا ما نظرنا إلى مقارنة بين العهد الجديد والقرآن الكريم كنصوص تاريخية بغض النظر عن القدسية، نجد أن القرآن الذي جاء بعد الإنجيل بخمسة قرون، يحمل في طياته دعوة إلى العلم والمنطق من أول كلمة اقرأ. هذه الدعوة العلمية لم تكن موجودة في المسيحية قبل عصور التنوير. وهذا ليس رأيي بل هو شيء أساسي استنادا إلى معظم دراسات

اللاهوت المقارن. ولست بالتأكيد من جماعات التفوق على الآخر، أو أن كل شيء موجود عندنا. النقطة هي أن العلم أساس في النص المقدس لدى المسلم، وهو الذي هجره وخلق حالة طلاق بائن بينه وبين التراكم المعرفي، حتى لا يقول بعضنا بالصفر والإسطرلاب إلى آخر قائمة التفاخر، بينما توصل العالم المسيحي إلى العلم، رغم غيابه عن نصه المقدس كأساس المعرفة، بعد فصل بين الدولة والكنيسة ليؤسس لنهضته العلمية التي نراها اليوم، لذلك تكون دعوة المسلمين إلى تقليد تاريخ أوروبا المسيحية للوصول إلى التطور، هي دعوة مبنية على تنميط للإسلام رغم أن هناك جهلا سائدا بين كثير من المسلمين اليوم، على العكس مما يتصوره من قرأ القرآن لأول وهلة، ورأى بأم رأسه الدعوة العلمية التي سبقت الثورة العلمية الأوروبية بما يقرب من عشرة قرون. هذه ليست مقولة تفوق إسلامي على المسيحية، أو ما يقترب من ذلك، لأنني هنا أتحدث عن النصوص بالمعنى التاريخي فقط وليس المقدس، كما يسيء فهم جوهر المقال من يظن أن المسلمين لا يحتاجون إلى تنوير اليوم، أو أن المسلمين أفضل من غيرهم.

المسلمون والعرب خصوصا يحتاجون إلى تنوير، وأن يكون العلم هو الأساس لأي انطلاقة حضارية قادمة، ولكنني لا أرى في الأحداث التي تصنعها الظروف مثل الحروب وغيرها أنها تفتح الباب للتنوير. فالتنوير دائمًا ما يكون له أسس فلسفية وثقافية (intellectual foundation) وهذه غير موجودة في العالم الإسلامي اليوم.

فارق مهم أيضا بين العالمين الإسلامي والمسيحي، هو أن المسيحية ديانة اعتمدت على الكنيسة كمؤسسة كهنوت، أما الإسلام فلا كهنوت فيه. وأي دارس لعمليات الإصلاح في المجتمعات، يعرف أن إصلاح المجتمعات يأتي من إصلاح المؤسسات، وبما أنه لا يوجد في الإسلام مؤسسة، فيقود الإصلاح أفراد أو تتبناه دول، وهذا مغاير تمامًا عن تاريخ التنوير الأوروبي. طبعا هذه ليست دعوة لتقليد المسيحية وتحويل المسجد من ناحية دوره الديني إلى ما يشبه دور الكنيسة، ثم بعدها نفعل بالمسجد ما فعلته أوروبا بالكنيسة، هذا النوع من الفهم عبث ولا علاقة له بهذا المقال البتة. النقطة هنا هي أن العالم الإسلامي في تاريخه ظهر فيه إما أشخاص مصلحون، لكنهم فشلوا، لأن الأفراد يفشلون عندما لا تقف خلفهم دولة، أو أن الإصلاح قامت به دول أو إمبراطوريات من دولة الخلافة حتى الأموية والعباسية والفاطمية إلى العثمانية.

النقطة الأساسية هنا هي أن الأسس الفكرية للتنوير غائبة، وأن أدوات التفكير السليم من المنطق إلى نظريات البحث العلمي غائبة إلا ما ندر، العربي اليوم يعرف كل شيء، أو يظن، ولديه إجابة عن كل شيء. إنسان خارق في العلم والمعرفة لدرجة الإعجاز. كانت المعجزات أن يحدث الاتصال عبر المسافات في «يا سارية الجبل» مثلا.

اليوم العربي العادي يظن أنه في عالم الإعجاز، فمن خلال الآيباد والآيفون، يظن المسلم أنه لا يحتاج إلى أن يبحث عن العلم ولو في الصين.. (والصين بجغرافيا أمس كناية عن بعد المسافة ربما تساوي المريخ اليوم) وهذه الأشياء تأتي بفضل ثورة المعلومات التي لم يكن له يد فيها، ويظن وهما وهو غارق في

الضوء الأزرق للآيباد والآيفون أنه شريك في الحضارة، العربي اليوم لا يجد حاجة للتنوير وهو متسلح بالآيباد والآيفون لأننا «احنا ناس منورين لوحدنا»! فما حاجتنا إلى التنوير؟

مأمون فندي

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط