هيثم كابو

ورحل الموسيقي العلامة والرجل الابتسامة


* لو كانت البشاشة كائنا حيا من لحم ودم لما اختارت غيره لتأتلف معه.. وإذا تحولت الابتسامة لرجل يمشي على قدمين لما ارتبطت إلا به.. ومادام الموت نقادا يختار الجياد فلعمري إن المنية لن تجد مهما طال بها البحث والتنقيب من هو أكثر منه أدباً وتهذيباً وتواضعاً وبساطة وطيبة ونقاء وحسن معشر وإخاء ..!
* يقف على خشبة المسرح شامخاً تسبقه إمكانياته الفارعة وقامته المديدة.. ومن فرط تواضعه دائماً ما تجده منخفض الرأس ينظر إلي أسفل أثناء عزفه على آلة (البيز جيتار) مع أن دوزناته ترفع الجباه عالية وتجعل رؤوس من يرافقونه في التنفيذ الموسيقي قبل السامعين شامخة تعانق عنان السماء.. متواضع لدرجة الانزواء، فهو لا يعرف الوقوف أمام العدسات، ولا يعشق الحوارات الصحافية والفلاشات.. ما وقف يوماً ليتحدث عن نفسه مع أنه لو فعل فذلك حقه، وما توقفت أنغامه يوماً من الحديث عنه حتى بات اسمه معروفاً للذويقة وعشاق الغناء الرصين في بلد من النادر أن يمنح أوسمة التميز والنجومية للموسيقيين ..!
* تيمت الأنغام.. ترملت الموسيقى.. وارتدت الفنون أمس ثوب حداد عندما نعى الناعي الموسيقي البارع وعازف (البيز جيتار) الماهر محمد بشير الذي يشهد له مشواره الفني الطويل بالإبداع منذ أن جاء من قاهرة المعز ليلتحق بفرقة (النورس) الموسيقية في عام 1996م ليشتعل جمالاً وطاقة، ويضفى على الموسيقى لمسة ساحرة وحس رفيع وخطوط خلاقة ..!
* جاء الميلاد الموسيقي الحقيقي لمحمد بشير مع تأسيس فرقة (النورس) التي مثلت مع (البعد الخامس) مرحلة نضج موسيقي متجاوز ما بعد (زمن السمندل) ووضعت على الأغنية بصمة أكاديمية باذخة الجمال؛ وعالية القيمة؛ وعميقة الأثر؛ وبديعة التكوين.. عرفه الناس وهو يعزف خلف الفنان الراحل محمود عبد العزيز الذي كان يقود وقتها انقلاباً فنياً من أجل (توطين الذوق) واستعادة الغناء السوداني لأراضيه التي سرقتها الأغنيات العربية في (زمن التمكين) بعد أن تحولت أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية آنذاك لمضخة أناشيد جهادية ..!
* سنوات طوال ارتبط فيها محمد بشير بمشروع محمود عبد العزيز الغنائي وإن ابتعد عن الفرقة قبل فترة من رحيل (الحوت).. كان شريكاً أصيلاً مع رفاقه في الفرقة الموسيقية في النجاحات الساحقة التي حققها محمود، فإن كان لعازف البيز العالمي (ستون باريت) نصيب في رحلة الأسطورة بوب مارلي فإن لمحمد صاحب الأصابع الغنية بالنغم ما لاستون الذي يمثل واحداً من دعامات موسيقى الريقي و(صمام أمانها الأول) ..!
* مهارة محمد بشير الموسيقية لا يختلف عليها اثنان.. براعته في العزف على (الباص جيتار bass guitar) من الثوابت التي لا جدال عليها.. تطويعه لأوتار آلة البيز يعرفه (السميعة).. وإسهاماته المقدرة في ضبط جماليات الاستديوهات لا ينكرها إلا مكابر أو غافل!
* برحيل محمد بشير فجر أمس ودعت الساحة الفنية نغمة عذبة لا مثيل لها؛ ودوزنة خاصة يصعب نسخها، وبموت ريحانة (البيز جيتار) قبرنا مبدعاً علامة وشيعنا الخلق القويم والإبتسامة .!
* عندما قرر عبد الخالق محمد عثمان ورفاقه إعادة (النورس) مؤخراً كان محمد بشير سباقاً كعادته ووضع اسمه قبل إمكانياته رهن تصرف الفرقة.. التحق بشركة البروف للإنتاج الفني فكان مرجعاً لعثمان صباحي وأسرة الشركة.. ظل مواصلاً لمسيرته حتى يوم أمس الأول الذي صاحب فيه المطرب الشاب حسين الصادق بالعزف، وعاد محملاً بالابتسامات قبل النوم كعادته كل يوم .!
* أغمض محمد اغماضته الأخيرة أمس في عز شبابه تاركاً سيرة ناصعة وإبداعا خالدا.. تعازينا لأسرته الكبيرة و(زوجته وبناته الخمس وابنيه) الذين سيحملون اسمه ويفاخرون به.. نأمل أن يظل أصدقاء الراحل قريبين من أسرته وألا ينفض جمعهم برفع سرداق العزاء.. ننتظر من أسرة النورس تخليده وتعديد مآثره في أربعينيته.. تعازينا لزملائه من الفنانين والموسيقيين الذين تقاطروا أمس لحظة سماعهم للنبأ لتقديم واجب العزاء بمنزل الأسرة بضاحية الفتيحاب تسبقهم دموعهم.. التعازي لمحبي دوزناته على امتداد الفضاء الفني، و(قلدة حزن دافق) لعازفي البيز الذين فقدوا أحد ركائزهم، والعزاء المسكون بالعبرات لمنتصر بيز والتيجاني دفع الله وعبد الوهاب وردي ومجاهد السيمت وصولاً للعازف الشاب محمد حسن ولكل (عائلة البيازة) على امتداد أرض الوطن ..!
* رحل محمد بشير عطر (النورس) المدوزن لتنزف الأوتار وتنتحب الفنون.. (إنا لله وإنا إليه راجعون) .
نفس أخير
* عزيزي الراحل سيد أحمد الحاردلو: تاني قام واحد جميل (زي محمد بشير) في بلدنا مات ..!