مقالات متنوعة

حيدر ابراهيم علي : محنة اليسار العربي


اهتم الرأي العام العربي بانحسار السلفيين ممثلين في (حزب النور) في الجولة الأولى للانتخابات المصرية. ولكن في الوقت ذاته، فات علي الكثيرين ملاحظة الانحسار الحقيقي والنكسة التي أصابت اليسار المصري، والذي لم تحرز أحزابه ولا مقعدا فرديا واحدا. ولكن هذه الظاهرة السياسية ليست قاصرة علي الحالة المصرية وحدها ولكنها يمكن أن تُعمم على اليسار العربي من الماء إلي الماء، بلا استثناء. وهذا واقع محيّر، ومحنة حقيقية أصابت اليسار العربي، بينما كان من المتوقع من أي حزب يساري عربي، أن يكون كما يقول الصوفية: حزب الوقت. لأن الظروف الحالية التي تعيشها الشعوب العربية منذ2011، هي الأمثل لمبادئ اليسار. فقد كسرت الإنتفاضات الشعبية، حاجز الخوف والتردد. ونزلت الجماهير بعفوية رائعة، عارضة نفسها لمن يقوم بالتنظيم والتجييش والوعينة أي بناء الوعي. وكان هذا دور اليسار حسب خطابه المعلن، وشعاراته المرفوعة، وإدعاءاته التي يحاجج بها ويميز بها نفسه. ولكن اليسار العربي لم يكن جاهزا، كما أنه لم يقرأ الواقع بعيون يسارية علمية قادرة على فهم التناقضات الرئيسية والثانوية، ولا الاحساس بنبض الشارع الحقيقي. وقد كان التطور مختلفا في أمريكا اللاتينية حين مرت بتحولات مشابهة لما يسمى بـ «الربيع العربي». فقد فازت الأحزاب اليسارية والاشتراكية بالانتخابات في معظم أقطار القارة، مما أعطي الأمل أن الاشتراكية حية لا تموت.
إن اليسار ليس مجرد تنظيم أو كيان حزبي، ولكنه رؤية للعالم تعمل لتغييره للأفضل. فهو يتضمن الفكرة القائلة بأنه ليس المطلوب تفسير العالم ولكن تغييره. ولكن هذا المصطلح بمعناه الضيق يرجع إلى الثورة الفرنسية، حيث تميز ممثلو الشعب الجالسين في يسار قاعة البرلمان بمواقف تميل الي التغيير الجذري. وكان هؤلاء يرون أن تقرر الثورة قيام الجمهورية، ثم تم تداول المفهوم لتصنيف كل الذين يطالبون بإحداث تحولات عميقة. لذلك اطلق المصطلح لاحقا على عدد من الحركات الثورية مثل الاشتراكيين، والشيوعيين، والفوضويين. والمصطلح نسبي مكانيا وتاريخيا، ففي فرنسا كان لليسار الفرنسي اهتمامات عديدة. فقد اهتم بعلمانية الدولة، أو فصل الدين عنها، أوتحييده في علاقته مع الدولة. كذلك كانت قضية المرأة في بؤرة اهتمامه. وفي أماكن أخرى، كان للمساواة وحقوق العاملين، والحد من نفوذ الطبقات الغنية، موقعها المتقدم في اهتمامات اليسار. وبعد الحرب العالمية الثانية احتل موضوع السلام، بالذات نزع السلاح النووي، أولوية في فكر وشعارات اليسار. ثم تبني اليسار قضية تقرير مصير الشعوب المستعمَرة. أما تطبيق الاشتراكية بتنوعاتها المختلفة، فظلت الفكرة المميزة التي ارتبطت باليسار. أو على الأقل ارتبط اليسار ـ تاريخيا ـ في عموميته، بالمستقبلية والتغيير الاجتماعي والمساواة.
أردت القول بأن فكرة اليسار في جذرها أو أصلها، ليست نبتا طبيعيا وذاتيا أنتجه الواقع العربي. فقد تم استزراعها من الخارج، مثل الدولة، والتعليم الحديث، والجيش، والخدمة المدنية، وغيرها من مظاهر التحديث. ولكن هذا الاستزراع ليس مشكلة أو عيبا في حد ذاته، في عالمنا المعولم والمتداخل هذا. بل العيب في عدم القدرة علي تبيئة وتوطين الأفكار والمفاهيم الجديدة، وهذا ما فشل اليسار العربي في إنجازه، فظل عاجزا وتابعا يعتمد على الخارج في أدواته الفكرية. فاليسار االشيوعي مثلا، فصل بين الشيوعية السياسية وبين الماركسية كفلسفة وعلم الاجتماع، يمكن توطينها وتأصيلها محليا. وكانت النتيجة، أحزابا شيوعية تنظيميا، ولكنها ليست ماركسية فكريا. والدليل علي ذلك، عدم قدرة الشيوعيين العرب على «مركسة الواقع» أي فهم الواقع من خلال أدوات تفكير ماركسي يحلل الطبقات، وعلاقات الإنتاج ووسائله. ولذلك عانوا من حالة إغتراب بسبب صعوبة الأفكار وجدتها، فانتشرت الحالة بين الجماهير العادية. وكانت المفارقة في أن يكون جُلُ رواد حركات اليسار من أبناء الطبقات الغنية، ومن ذوي التعليم المتميز. وتنسحب هذه الخصائص على مجمل فصائل اليسار المختلفة مع بعض الاختلافات الطفيفة. فالاغتراب الاجتماعي، والنخبوية، والعزلة، هي سمات اشتركت فيها فصائل اليسار العربي الشيوعي، والقومي، والبعثي. وهذا ما حرمها من الانتشار الجماهيري، والحرمان من الشعبية.
هذه الوضعية لليسار العربي أدخلته في تناقض عميق، خاصة وأنه لم يتخلص تماما من عيوبه التكوينية الأولى. فاليسار رغم إدعائه التعبير عن مطالب الجماهير وأشواقها، إلا أن هذا لم يمنع النظرة الاستعلائية من قبل كثير من مثقفي اليسار، وقد يعود ذلك إلى إنصراف الجماهير عن الإنضمام للأحزاب اليسارية. وهذا ما أدخل اليسار في الخطأ الجسيم التي دفعه لحرق المراحل، واستعجال حدوث «الثورة». وكان اليسار يعتبر أن الجيوش هي أحدث وأسرع قوة سياسية في القيام بـ «الثورة». وكان اليساريون هم من روجوا لوصف الإنقلابات في ستينيات القرن الماضي، بـ«الثورات»، كما حدث في السودان. وهم من قايضوا الحرية والديمقراطية مقابل الخبز (الاشتراكية) وتحرير فلسطين؛ فخسرت الشعوب في النهاية الخبز والحرية معا. فقد فشلوا في تطبيق الاشتراكية، ولم تتحقق الوحدة العربية، وهذا ما أعطى الإسلام السياسي مبررا يقول بفشل الاشتراكية والقومية، ليقدموا أنفسهم كبديل. ووجدت هذه الدعاية قبولا واسعا بسبب معاناة الشعوب من قهر تلك النظم الاستبدادية. مع أنه في الواقع لم تُجرب الاشتراكية أصلا، فقد كانت تلك التجربة، رأسمالية دولة ساعدت في قيام فئات اجتماعية طفيلية استغلت قيام القطاع العام والتأميمات العشوائية في ثرائها. أما سياسيا فكانت سيطرة الحزب الواحد، وأجهزة الأمن. وكان اليسار في أغلب الأحيان وراء هذا النموذج، رغم أنه في أحيان كثيرة تم قمعهم بالوسائل التي صنعوها. فالإنقلابيون ـ حسب غرامشي- لا يستطيعون الجلوس للأبد على رماحهم التي وصلوا بها إلى السلطة. وهنا ينزلهم المثقفون كما حدث في العالم العربي، من خلال التنظير وصك الايديولوجيات، لتصبح تلك النظم الاستثنائية عادية. فهم يساهمون في بناء الحزب القائد، وتدبيج مواثيق ذات لغة مبهمة وخشبية، ورفد الإعلام لتزييف الوعي. هذا هو تاريخنا الحديث والذي ساهم اليسار العربي بقدر كبير في صناعته، ويتحمل المسؤولية في آثاره الجانبية العديدة.
كانت تداعيات سقوط التجربة السوفيتية وإنهيار حائط برلين، دليلا ساطعا على بؤس اليسار العربي، وعدم قدرته على التجديد، وضعف الخيال السياسي. فقد دخل اليساريون العرب في حالة ارتباك كاملة وغير منتظمة، فوجد كثيرون ضالتهم في «الليبرالية الجديدة» وجعلوا من منظمات المجتمع المدني مستوطنات بديلة لأحزابهم المنهارة. فقد نقلوا للمجتمع المدني كل مظاهر تربيتهم الحزبية المشوهة. وقد هاجر آخرون إلى التصوف، بل صار بعضهم دعاة إسلاميين، وهكذا ضاع دم اليسار.
يبقى السؤال: هل لليسار العربي مستقبل؟ إن أفكار الحرية والعدالة، تكاد تكون من طبيعة النفس البشرية، ولذلك لا تموت أو تندثر. وهذا هو فكر اليسار في حقيقة الأمر، ولكن يشترط في حامل هذه الأفكار أن يكون صادقا يتطابق قوله مع ممارسته وفعله، وأن يكون ناكرا لذاته. فاليساريون العرب لا تنقصهم الأفكار النبيلة، ولكن تنقصهم الممارسة، والجدية، والقدرة على التعلم من خلال النقد والنقد الذاتي. وهنا يمكن أن يجذبوا ويقنعوا سندهم الطبيعي في الريف والبوادي، وبين المهمشين، ووسط النساء المقهورات، والأقليات المغبونة، ويعود اليسار قويا ومعافيا لملء دوره الخالي حاليا.
٭ كاتب سوداني