مقالات متنوعة

ابراهيم عثمان : جوِّدوا نظرية مؤامرتكم أولاً


تماماً كما حدث في سد مروي و بدرجة أقل في تعلية خزان الرصيرص وسدي أعالي نهر عطبرة وسيتيت و غيرها من المشاريع الكبرى ، لم يستطع المعارضون تقديم نظرية مؤامرة متماسكة متسقة يلتفوا حولها فيما يخص السدود الجديدة ، فنسجوا نظريات مؤامرة متنافرة لا يجمع بينها شئ سوى مقصدها النهائي .ومع ذلك يتعايش أصحاب هذه النظريات ويصفق بعضهم لبعض حتى لو مست نظرية الآخر أسس نظريته وهدت أركانها ، وليس ضرورياً أن تتوزع النظريات المتنافرة/المتساندة بين أشخاص مختلفين ، بل كثيراً ما تتعايش داخل الشخص الواحد مما يكشف أن البحث عن الحقيقة هو آخر اهتماماته . و إن كانت نظرية المؤامرة مستهجنة إن أصبحت لدى صاحبها مرضاً مزمناً و أداة تفسير وحيدة تفسر كل شئ ، فإنها ستكون أكثر استهجاناً بفارق سنوات ضوئية إن لم يحسن المرء نظرية مؤامرته ، وإن ضعفت الأسس التي تستند عليها حتى أصبحت تتعايش بكل أريحية مع نظريات أخرى تشتجر جذرياً مع كل أسسها ولا تشتغل إلا على أنقاضها !
أرجوزات نظريات المؤامرة كأنهم يوحى إليهم من شيطان ، يوسوس لهم بالقول ونقيضه فيرددونه بكل ببغائية بلهاء كسولة تجعلهم يصطفون تلقائياً وغريزياً في صف إبليس ، وشيطانهم ليس ذاك الذي تواضع الناس على توقع أنه يشكل حضوراً مفهوماً في التفاصيل ، لا بل هو شيطان المتون والحواشي ، العناوين والمضامين ، التفاصيل والكليات . من يتهم هذه الكلمات بالقسوة والمبالغة سأسلم له بذلك ولكن فقط بعد أن يثبت لي أن وحياً غير وحي الشيطان هو ذلك الذي – على سبيل المثال – يجعل أحد هؤلاء يكتب بحماس مدافعاً عن فكرة أن السدود على النيل لم تحدد مواقعها الظروف الطبيعية و إنما المحاباة لهذه المناطق ، وبعد قليل تجده يكتب بنفسه أو يشجع من يقول بملء فيه أن السدود مؤامرة على تلك المواقع تستهدف إنسانها وتاريخه وتراثه وسرقة أراضيه ! من يتكفل بردم الفجوة المنطقية بين الدعويين سوى الشيطان ؟! من غير الشيطان يجعل مثل هذه التناقضات و عشرات غيرها تتعايش داخل إنسان واحد و تشكل جميعها بالتضامن لا التنافر بنية وعيه ؟! إن تمكن أحدهم من نفي صلة الشيطان بهذا فهو لن يسدي لهذا الإنسان خدمة ذات بال ، لأنه لم يفعل سوى أنه نقل التهمة من الشيطان إلى الإنسان ليكون وحيه المسموم المريض من داخله !! والغريب في الأمر أن العلاقة بين هذه المتناقضات – كما تبدو في سلوك أصحابها – هي علاقة تضامنية تآزرية تساندية وليست علاقة تفاعلية جدلية تولد نقاشاً تكون الغلبة فيه لواحدٍ منها للخروج بنظرية مؤامرة متسقة يستطيع متبنيها أن يدافع عنها في وجه النافين لأصل فكرة المؤامرة أو المتبنين لها ولكن بوجه آخر ينسف نظريته من أساسها . أصبحت الفكرة هي حشد أكبر عدد من التهم لإضعاف الخصم بينما في الواقع لا يفعل هذا الحشد من التهم المتضادة شئ سوى إضعاف بعضها بعضاً ، فإن تكفل شيطان صاحبها بتغطية تناقضاتها وبتسويقها جنباً إلى جنب دون أدنى شعور بالحرج ، وبدت لدى صاحبها تهماً يعضد بعضها بعضاً ، فإن ذلك الشيطان لا يستطيع أن يشتغل بذات القوة على صعيد الرأي العام الجمعي . قد يقول قائل أن نظريات المؤامرة المتضادة هذه لا تأتي من ذات الأشخاص ، بل من كلٍ حسب موقعه السياسي و خلفيته الإثنية و موقعه الجغرافي ، وأن التفاعل الذي تنفي وجوده والذي ينتج عنه نظرية مؤامرة واحدة تنفع الناس بعد أن يذهب زبد النظريات جفاءً هو ما يظهر في البيانات الرسمية ، فالرد على ذلك أن البيانات الرسمية نفسها كثيراً ما تتناقض و تحمل شتات نظريات المؤامرة المتضادة داخلها ، إن لم يكن في البيان الواحد – وهذا يحدث أحياناً – ففي عدة بيانات متفرقة تصدرها الجماعات منفردة أو تصدرها هياكلها التنسيقية في مناسبات وأوقات مختلفة .
جودوا نظرية مؤامرتكم أولاً ليحسن تصديكم ل ( المتآمر ) و حتى لا يستقبل الرأي العام نظرياتكم نفسها كمؤامرات على وعيه . وتأكدوا أنه ليس بالمبالغة وحدها تسوَّق النظريات . بل إن العلاقة عكسية بين المبالغة و قدرة النظرية على الصمود والإنتشار ، هذا إن كانت نظرية واحدة ، فكيف إن تعددت النظريات وتعاظمت المبالغات وتضادت ؟! فما بين السدود كمحاباة مقصودة لأهل المناطق التي تقام فيها ، والسدود كمؤامرة مقصودة عليهم بون شاسع وفتق واسع لا يرتقه إلا وعي مريض وبلادة مستحكمة وضمير مجرم .