تحقيقات وتقارير

سياسة السودان الخارجية وموسم الهجرة إلى إفريقيا


يقول التنزاني باسكال نقويى (Paschal Nguye) متمنياً “لو تم انتخابي رئيساً للجمهورية ليوم واحد إذن لعملت بحماس وبكل قوتي وقبل أن تنقضي فترة حكمي من أجل انضمام السودان لمجموعة دول شرق أفريقيا”.

ويضيف باسكال الذي يبلغ من العمر 65 عاما ويعمل مرشدا متخصصا ومهنياً لرحلات السفاري في أحدى الشركات الخاصة في بلده تنزانيا، بعد تقاعده عن عمله الحكومي محاضرا بالكلية الأفريقية لادارة الحياة البرية في إقليم أروشا،” إن السودان بلد مهم وذو موارد كثيرة ومتعددة وأنضمامه لهذا الاتحاد سيقوي من وضعه كما سيوفر تكاملا حيويا من شأنه أن يثري ويقوي كل دول الاقليم”.

وتسأل باسكال مستغرباً لماذا لم ينضم السودان إلى الاتحاد وهو من أكبر وأقوى دول الاقليم بحسب موقعه الجغرافي!!! لكنه هز رأسه متمتماً ” السياسة” كـأنه وجد إجابة لسؤاله، مندهشا كيف يفوت السياسيون هذا الأمر ولا يدركونه.

تجمع شرق إفريقيا (East African Community, EAC)، يضم ثلاث دول هي تنزانيا و كينيا ويوغندا ويقع مقره الرئيسي في “أروشا” بتنزانيا، وتمّ تأسيسه في العام 1967 لكنه لم يستمر طويلا بسبب المتغيرات في المنطقة. تم إعادة تأسيس التجمع في 30 نوفمبر 1999، بإبرام معاهدة تأمل في إنشاء اتحاد اقتصادي وسياسي بين الدول الأعضاء، ودخلت حيز التنفيذ في 7 يوليو 2000 بعد التصديق عليها من قبل الدول الثلاث الأصلية كينيا وأوغندا وتنزانيا، وأنضمت له لاحقا جمهوريتا رواندا وبوروندي في 18 يونيو 2007.

وتهدف مجموعة شرق إفريقيا، إلى توسيع وتعميق التعاون بين دول المجموعة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من أجل المنفعة المتبادلة بينهما، كما يهدف إلى عمل كتلة اقتصادية إقليمية كبيرة تشمل بوروندي وكينيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا، ويبلغ عدد سكان هذه الدول مجتمعة أكثر من 125 مليون نسمة. وأنشأت دول تجمع شرق إفريقيا، الاتحاد الجمركي في 2005 وتسعى لإنشاء سوق مشتركة، فضلا عن توحيد العملة النقدية، ثم اتحاد سياسي لدول إفريقيا الشرقية.

وقد قال لي من قبل زميلي الصحفي كينث اقوتامبا (Kenneth Agutamba) من يوغندا مستفسراً بأدب، “إن العديد من الدول الأفريقية لديها مشاكل مع السودان”! وفهمت من كلامه أنه يريد أن يقول بصورة مباشرة أن السودان العربي يعادي ويشاكس جيرانه الأفارقة ويفتعل معهم الخصومات ولا يبالي بهم!
فقلت له بحسب ما أرى وهو رأي قد يراه الكثيرون غيري، إن السودان يقع في قلب أفريقيا، جنوب الصحراء ويتمدد إلى شرقها حتى البحر الأحمر بساحل يبلغ طوله حوالي 800 كيلومتر.وكان يجاور تسع دول هي مصر وليبيا من الشمال وكينيا وإثيوبيا وإريتريا من الشرق وتشاد وإفريقيا الوسطى من الغرب ويوغندا وزائير والكنغو من الجنوب، ويحده شرقاً البحر الأحمر بحيث يشرف مباشرة على الجزيرة العربية.

وأن موقعه هذا إضافة إلى تكوين سكانه وحضارته العربية والأفريقية حتم عليه منذ البداية وبعد استقلاله، إنشاء علاقات وطيدة الدول العربية ومع دول القارة الأفريقية وعلى الأخص دول الجوار. وكما سارع إلى الانضمام إلى الجامعة العربية سارع أيضاً إلى الانضمام إلى منظمة الوحدة الأفريقية فور تأسيسها في العام 1963م.

واستطردت، غير أن السياسة الخارجية للسودان ركزت في علاقاته على الدول العربية أولاً، حيث انضم للجامعة العربية مباشرة في 19 يناير أي في ذات الشهر من العام 1956م الذي نال فيه حريته من الاستعمار البريطاني، تأكيداً لانتمائه العربي، وإيماناً بالمبادئ التي أعلنها ميثاق الجامعة العربية، من تدعيم للعمل العربي المشترك والتعاون في جميع المجالات.

وربما تسبب انغماس السودان في القضايا العربية وتشابك علاقاته مع الدول العربية، وتأثير القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا الإقليمية العربية عليه، وبخاصة تراكمات الصراع العربي وتطوراته، إلى أن تعاني العلاقة بين السودان وجميع الدول الأفريقية من الضعف وعدم القدرة على القفز إلى الإمام.
فبحسب تقارير بنك السودان المركزي ظلت الدول العربية تتصدر المرتبة الثانية كشريك تجاري مهم لتجارة السودان الخارجية حيث صدر لها السودان ما نسبته 33.8% من صادراته لعام 1997م، واستورد منها 25.4% من إجمالي وارداته لذات الفترة.

فيما ظلت تجارة السودان الخارجية مع الدول الأفريقية لسنوات طويلة متدنية أو شبه معدومة وترصد في سجلات بنك السودان المركزي تحت بند (دول أخرى) وذلك لقلتها وتذبذبها. وإن كانت هذه التجارة قد شهدت تحسناً مع تزايد نسبة مشتريات بعض الدول الأفريقية و‎أهمها إثيوبيا وإريتريا وكينيا ضمن إطار سوق الدول شرق وجنوب إفريقيا المشتركة (كومسا).

وعلى الرغم من أن موقع السودان يعطيه دوراً متميزاً في علاقاته العربية والأفريقية وعلى المستوى الإقليمي والدولي، ألا أنه يشكل من جهة أخرى بؤرة للنزاع إذ أن معظم الحدود مع جيرانه التسع موروثة من العهد الاستعماري لأفريقيا، وقد أثرت سلباً وإيجاباً على علاقاته مع كل هذه الدول خاصة مسائل الحدود بين السودان ومصر (حلايب) وكينيا (مثلث المي) وأثيوبيا وتشاد، وقد تأزمت علاقات السودان ووصلت إلى حدود التفجر وأوشكت أن تصل حدود الصراع المسلح مع هذه الدول.

في العام 1977 نشر بروفسور علم الانسان وعالم النوبيات الأمريكي وليم أدمز (Williams Adams) كتابه الشهير (Nubia: Corridor to Africa). وقد وفق مترجم الكتاب استاذ علم الاجتماع د. محجوب التجانى محمود في ترجمته إلى العربية بأسم (النوبة: رواق أفريقيا). إذا تعني كلمة رواق معاني عدة : منها البيت، روَاق البيت هو مُقَدَّمُه ، الرُّوَاقُ سقيفة للدِّراسة في مسجد أو معبد أو غيرهما، وهو رُكْنٌ في نَدْوة أو مُنَظَّمة للتَّلاقي والتَّشاوُر، ورُواق العين : حاجبها. ولكن الكثيرين لم يفلحوا في تناول هذه المسالة إذا اغفلوا الترجمة العربية والمعاني الاخرى للمفردة الانجليزية و تعاملوا بحرفية وظاهرية مع أحدى معاني اللفظ الانجليزي وأكثرها تداولا (Corridor) وهو الممر، ووصفوا السودان بأنه جسر أو معبر بين العرب وأفريقيا. وهو اختزال مخلٌ للمعنى الكبيرالذي يحمله لفظ رواق وللدلالة التي ربما قصدها الكاتب وهو أن السودان بيت أفريقيا ومقدمها وحارسها ومعبدها ودار ندوتها للتلاقي و للتشاور، فهل ندرك هذا الوضع ونعمل من أجل تحقيقه!!!!!

وأخيرا هل لي أن نسأل إن كان هناك أهدافاً محددةً من قبل السودان لما يريده من جيرانه عرب او أفارقة وهل هناك ترتيب لما يريده منهما أيضاً. أم أن حاجته ومشاكله التي يبحث لها عن حلول تربك قراره ولا تتيح له فرصة التأني في ترتيب الأهمية النسبية في علاقته!
والتداخل بين الترتيبات الإقليمية للسودان، هل يجب أو يتوقع له أن يؤدي إلى إضعاف العلاقة بينه وبين طرف بعينه دون الآخر أو تحجيمها؟ وتعدد هويات السودان وترتيباته الإقليمية مع الدول هل هي على حساب أحد دون غيره وهل السودان مضطرلاختيار بديل بعينه، أم بإمكانه أن يوسع نطاق علاقاته فتكون له علاقة مع كل الأطراف؟

ولعل ما ذكره وزير الخارجية الجديد البروفسور إبراهيم غندور في تصريح صحفي، حول تطلعه لوضع السودان في إطاره الصحيح في قارته الأفريقية، يحمل اجابات ايجابية فيما يتعلق بسياسة السودان الخارجية ، حيث ذكر الوزير قائلا:” إن السودان تشوهت صورته بدرجة كبيرة جدا في داخل القارة، خاصة إبان حرب الجنوب فتارة نحن عرب نقتل الأفارقة وأخرى نحن مسلمون نقتل المسيحيين وغير المسلمين وتارة ثالثة نحن مسلمون متطرفون نقتل المسلمين المعتدلين”.

وقال إن هذه الصور المشوهة “يلاحظها كل من عمل في إفريقيا وأنا قد عملت في إفريقيا”. وعلى الرغم من ان هذه الصور استعدلت بعض الشيء خلال السنوات الماضية وظهر ذلك في الدعم الأفريقي للسودان، إلا أنه ما يزال هناك بعض التشويش لدى البعض وربما لا يكون موجود في أذهان القيادات العليا، ولكنه صور ذهنية رسمت عبر سنوات طويلة وتحتاج إلى إعادة رسم ووضع السودان الأفريقي في مكانه الصحيح في القارة خاصة وانه الذي ساند حركات التحرر الأفريقي ودعم الشعوب المختلفة فيها.

وربما يمكنني القول إنه تأسيساً على نتائج أجابات هذه الاسئلة وتطلع وزير الخارجية، فإنه ليس هناك ما يحد من تطور العلاقات بين السودان وجميع أشقائه عرب وأفارقة أو يمنع تقدم هذه العلاقات أو القفز بها إلى الأمام.

إشراقة عباس
الخرطوم في 19-11-2015(سونا)