ضياء الدين بلال

سِرُّ في سوبا!


-1_
يوجد سِرٌّ ما في هذا المكان. كلما زرت مستشفى سوبا، شعرتُ بأنني في مكانٍ جدير بالإعجاب والاحترام.
لا تُخطئ العينُ بعض النواقص هنا وهناك، وربما ما هو أكثر من ذلك، ولا يُرى بالعين الزائرة.
بالمشاهدة والسؤال، كانت قناعتي تتعزَّز في كل مرة، بأن مستشفى سوبا الجامعي، من الأماكن القليلة في السودان، التي يستقيمُ فيها العودُ والظلُّ معاً.
تُرى، هل هي بركة الدكتور المتصوف عمر بليل؟
للرجل قصة حياة، لا أدري لماذا أخطأتْها كتبُ السيرة الوطنية والمناهج الدراسية ببخت الرضا؟!
كان البروف بليل صاحب الكلية الواحدة، أثناء إجراء العمليات وبعدها دائم الاستماع للقرآن الكريم والمدائح النبوية.
ما بين أصوات المقصات وقعقعة المشارط، والمراوحة بين الخوف والرجاء، تعبُرُ مدائح الشيخ السماني أحمد عالم، وعبد العزيز محمد داؤود يشدو بصوته الخريفي البديع:
لك الحمد يا مستوجب الحمد دائماً
على كل حالٍ، حمدَ فانٍ لدائم
فسبحانك اللهم تسبيحَ شاكرٍ
بمعروفك المعـروف يا ذا المراحم
فكم لك من ستـرٍ على كـل خاطئ
وكم لك من برٍّ على كـل ظالم
وجودك موجود وفضلك فائض
وأنت الذي تُرجى لكشف العظائم.
-2-
الحاجة نورا امرأة قَطَرِيَّة عزيزة في أهلها، عانت كثيراً من مرض الفشل الكلوي، آناء الليل وأطراف النهار لسنوات طوال، قبل أن تنتقل لجوار ربها راضيةً مَرْضِيَّةً.
حزنتْ عليها أسرتها وشريك حياتها، حزناً عظيماً ملأ كأس الأسى وفاض.
الزوج المكلوم عمل على فتح حسابات لها في بنوك الإحسان، بعد انقطاع عملها في الدنيا.
كان خيار الزوج أن يجد من أبواب الخير ومصارفه، ما له علاقة بسبب الرحيل من الحياة الفانية.
مرض الفشل الكلوي يتسلَّل إلى الجسد، على وقْع خطى اللصوص، ويكشف حجم الكارثة ودويَّ الفجيعة.
اشترى الرجل عشر ماكينات لغسل الكلى، وجاء بها إلى السودان، وظن أنه سيجد آلاف المحتاجين إليها، وكل ما يُيسِّرُ له تشغيل الماكينات في أماكن الحاجة.
على غير ظنه، سارت الأوضاع، على مهلٍ وتراخٍ: عقبات في كل الأماكن وشروط ومتطلبات على المداخل، ودس للمحافير، وتثاقل عن الفعل، وبطء في الإجراءات.
كان قراره البحث عن دولة أخرى، قد تكون فيها الحاجة للماكينات أكبر وألح، والإجراءات أيسر وأسهل.
علم بعض الأطباء السودانيين بدولة قطر، بمشروع الرجل وما يعترضه من عقبات، فيسَّرُوا ما كان عسيراً، وتم نقل الماكينات إلى مستشفى سوبا.
-3-
ظل مستشفى سوبا منذ منتصف السبعينيات يحتفظ بنظام إداري مُحكم، بعضه من إرث جامعة الخرطوم، وما ترك الأساتذة الكرام: بليل وزملاؤه.
في ثلاثة أشهر، تم تشييد مبنى يستوعب الماكينات، وحينما عاد الرجل القطري للسودان وزار المستشفى وجد الماكينات لا تزال تعمل بكفاءة وأعداد كبيرة من المرضى تتعاقب عليها، أغلبهم من كبار العمر ومجموعة من الأطفال على باب الانتظار.
مشهد الأطفال – وأجسادهم واهنة وعيونهم شاردة – وهم ينتظرون الماكينات تنقي من دمائهم السموم، جعل الرجل ينخرط في نوبة بكاء تأثراً لحالهم.
ولأن زوجته نورا في الخاطر والوجدان، قرَّرَ أن يدعم حسابها في بنك الإحسان (فرع العمل الصالح)، فقرَّرَ إنشاء أول مركز لزراعة الكلى للأطفال بالسودان.
لا يزال هو المركز الرئيسي في البلاد لكل الأطفال المصابين بالفشل الكلوي، يأتي إليه المرضى من كل أنحاء السودان، وحتى من الدول المجاورة.
-4-
زرتُ مركز الحاجة نورا قبل أيام. صور ورسومات أطفال على الجدران وشاشات تلفزيونية وريموت كنترول بأيدي الصغار، وعناية ونظافة فوق المعتاد. ما أجمل الابتسامة على وجه طفل مريض!
أصدقكم القول، اختلطت مشاعري (حزناً وفخراً). الحزن على الأطفال وما أصابهم من ابتلاء، والفخر بوجود هذا المركز في السودان وبمستشفى لعوام الناس وغمارهم، الفقراء ملح الأرض.
الخير لا يتوقف..
شخصية سعودية معروفة، كانت في زيارة السودان احتاجت لفحص طارئ، لم يكن متوفراً إلا بمستشفى سوبا.
جاءت إلى المستشفى بعد انتهاء الفحص، وأعلنت تبرعها بأربعة ملايين جنيه (مليار بالقديم)، لدعم بناء مجمع العمليات.
والخير مستمر لا يتوقف..
أسرة رجل الأعمال (محمد الحبيب)، تُنشئ بمستشفى سوبا مركزاً للحمل الحرج لتشخيص ومعالجة الأمراض داخل الرحم، هو الأول في السودان والأخير إلى الآن.
وما فعلته صدقات وزين أكبر..
منظمة صدقات الخيرية تتكفل ببناء العناية المكثفة للكبار والأطفال، وعناية وسطى، بالاشتراك مع شركة زين للاتصالات.
-5-
ميزانية مستشفى سوبا لا تتجاوز الـ(300) ألف، لا تكفي وجبات المرضى والمرافقين وصناديق المناديل، ولكنَّها تُقدم مستوى خدمة علاجية نوعية، يتجاوز كثيراً من المستشفيات الخاصة من ذوات المليارات.
المجتمع يستطيع فعل الكثير، وأهل الخير في السودان وخارجه لا يبخلون بأموالهم ودعمهم، إذا وجدوا الأماكن القادرة على تقديم خدمات ضرورية وفق أداء متميز وبشفافية مالية كاملة لا تتسرب إليها الشبهات.
لماذا لا تنهض جهات خيرية ورسمية لتحويل مستشفى سوبا (40 فداناً) لمدينة طبية كبرى، تُغْنِينَا عن السفر لتلقي العلاج في الخارج، وتستفيد منها كل كليات الطب في السودان. مستشفى سوبا لا يحتاج إلا القليل من الإضافات، ليصبح مدينة طبية تشرفنا جميعاً.