مقالات متنوعة

د. جاسم المطوع : هل تربيتنا تسلية أم تسليتنا تربية؟


هل تعرف غلاما (مراهقا) غيَّر مجرى التاريخ؟ وهل مرَّ عليك غلامٌ كان سببا في هداية قومه؟ وهل سمعت عن غلام صار مرجعا في العلم؟

ربما يقول القارئ في نفسه إن ما ذكرته مستحيل، فكيف يغيِّر غلام صغير مجرى التاريخ، أو عقيدة مجتمعه، أو يكون مرجعا للعمل؟! وأنا أقول له إن ما ذكرته واقع، وليس مستحيلا.

أما الأول، فهو غلام الأخدود، وقصته ذُكرت في القرآن.. فقد تربَّى هذا الغلام على يد عالم رباني، يؤمن بالله تعالى، فتعلم قوة الإيمان والثقة بالنفس والتوكل على الله والاعتزاز بدينه وعدم الخوف من الناس، فوقف ضد ظلم حاكمه، حينما أراد قتله، وقال له: إذا أردت قتلي، فقل “باسم رب هذا الغلام”، فلما قالها عند قتله، أسلم قومه، فقدَّم نفسه ضحية، من أجل هداية قومه.

والغلام الثاني هو “حَبْر الأمة”، ابن عباس، رضى الله عنه، الذي تربَّى على يد النبي، صلى الله عليه وسلم.. علَّمه الله التأويل وآتاه الحُجة والبيان، فكان مرجعا في العلم والتفسير والفقه، على الرغم من صِغر سنه، والسر وراء هذا التميُّز للغلامين، أنهما تلقيا تربية إيمانية علمية في صغرهما.

فاللعب لم يكن شيئا ترفيهيا في حياتهما، وإنما اللعب والتسلية كانا تربية، ومن هنا ندرك الفرق بين تربية تقوم على التسلية، أو تسلية تقوم على التربية.

فالخلل الذي نعيشه اليوم في تربيتنا، بأننا حوَّلنا التربية إلى تسلية، وصار الذين يوجِّهون أبناءنا من بوابة التسلية يمارسون معهم التربية، فيغرسون أفكارهم ومعتقداتهم، من خلال الترفيه والتسلية، وأصبح المربِّي.. إما متفرجا وإما غائبا عن التربية، خلافا لما أمر الله تعالى به، فالله وجَّهنا، بألا نجعل التسلية من غير هدف أو تربية، قال تعالى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون)، وقال (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين).

فالقضية عند الله حق وباطل، فمن صفات الدنيا، أنها لهوٌ ولعبٌ.. قال تعالى (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة..)، لكن الله تعالى بيَّن أنه خلقنا للعبادة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، بينما وصف الكفار، بأنهم كانوا يلعبون بالدنيا (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)، بل وصف الله المؤمنين، بأنهم لا يضيعون وقتهم (والذين هم عن اللغو معرضون).

ومع هذا كله، فإن الإسلام سمح لنا بأن نلعب ونلهو بشروط، حتى نروِّح عن النفس ونسعدها، بهدف العطاء والإنتاج والاستمرار في العبادة، وخاصة لو كانت “التسلية تربية”، فإنها في هذه الحالة تحقق الهدف المنشود، فنبينا – صلى الله عليه وسلم – سابَق عائشة، رضي الله عنها، وكان يشاهد معها رقص الأحباش في العيد، وقال لحنظلة “ساعة وساعة”، وقال لجابر

“هل تزوجت بكرا أم ثيبا، فقلت تزوجت ثيبا، فقال هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك”، وكان يلاعب الحسن والحسين، رضي الله عنهما.

فبيوت الأنبياء فيها لعب وتسلية، لكن بهدف التربية.. ففي قصة يوسف، عليه السلام، طلب أبناء يعقوب من والدهم السماح لهم باللعب، فقالوا (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون)، وكان أصحاب رسول الله يجلسون جلسات يتحدثون فيها عن ماضيهم ويضحكون..

وابن الجوزي، وهو من فقهاء الأمة، ألَّف كتبا في الترفيه والتسلية، كـ “أخبار الحمقى والمغفلين”، و”أخبار الأذكياء”.

فالتسلية والترفيه من احتياجات الإنسان، وخاصة الطفل، وقد كتبت هذا المقال، لأني وجدت أكثر من عائلة فقدت سيطرتها على أطفالها وأبنائها في إدارة ألعابهم وأوقات فراغهم، فأصبح الطفل يدير والديه، فيكون طول اليوم في اللعب والتسلية، ولا يتدخل الوالدان في لعبه وإدارة أوقات فراغه.

والصواب، أن نستفيد من وقت لعبه، بتوجيهه، فنحوِّل “التسلية لتربية” والتعليم لمتعة، ولا مانع ونحن نوجههم ونتدخل في ألعابهم ونلعب معهم، أن نضحك ونمزح ونقفز ونركض، فهذا كله جعل “التسلية تربية”، وهو الهدف المنشود، بتوظيف كل ما حولنا لتربية أبنائنا.