مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : «فيروز».. أزهى من الأيام


هي أعمق من هبة صوت إلهية، وأعذب من موسيقى نسجها عاصي الرحباني على امتداد حبالها الصوتية التي امتدت لتشمل الأرض والوطن والعصافير. وهذه الثلاثية هي رمزية فقط لمعانٍ في مثل عظمة الحياة والانتماء والحرية. يستوي الذين يتذوّقون أداءها ولحنها وغيرهم، في أنّ الفن في حالة فيروز هو رسالة كونية وإن نثرته بالعربية واللحن الشرقي الهجين، لأنّه ينبع من إنسانة تنسرب حساسيتها المرهفة، فيذوب السامعون.
في هذه الأيام من الشقاء المستمر والتي ضاعت فيها عوالم التذوّق والإحساس مع مُدن الطرب، يحتفل العالم العربي بثمانينية السيدة فيروز. تستبين هذه الثمانين عقداً لامعاً من حقيقة وسط ركام الأحداث، وهي أنّ صوت فيروز يظلُّ هو الشيء الوحيد الذي يزداد تألقاً وجمالاً، بينما تذهب الأرض التي نبع منها وامتدادها العربي إلى انحدار ودركٍ سحيق من القُبح.
هذه هي فيروز وكما عودتنا أن تناجي الروح الغائبة فينا، أن تنتشلها من وهد هموم الحياة ومآسيها، يُذكّرنا عمرها المديد أنّ العالم ما زال بخير ما دام هناك من يستمرون بمخاطبة الوجدان، ويعملون على إنقاذه من كل ما حدث ويحدث. ولها طريقتها في اختراق الروح والتعبير بلساننا وكل حواسنا، وتدرك جيّداً كيف تنعى فينا الزمن المتسارع تهافتاً، بزمنها الخاص الذي يجسّد تفاصيل كل ذرّة منه ويحولها إلى قصة حياة.
ذكرتني ثمانينية فيروز أنّني أحبها، وكدتُ أنسى أنّني منذ زمان بعيد اقتنيت مجموعتها الكاملة وكل أغانيها على أشرطة الكاسيت، قبل ظهور الأقراص المدمجة وقبل اختصار هذه الثمانين في زر صغير، وبالرغم من ذلك ظلّت هي، هي يشعُّ صوتها من أجهزة التسجيل مثلما يداعب «السي دي» ويتمايل على «اليوتيوب» ومحطتها الفيروزية، لا تنقص من بهائها شيئاً. إلّا أنّه كان لفعل التهيئة بوضع الشريط على جهاز التسجيل والاستماع بغير أن يقطعه خبر تفجير في مكانٍ ما في هذا العالم، أو طنين رسائل وتنبيهات لا تتوقف، من مفعولٍ يجعل الروح أكثر إقبالاً على الحياة.
ومثلما قالت أم كلثوم «ثم أغمض عينيك حتى تراني»، كنت أغمض عينيّ حتى تتركّز حاسة السمع، فينسحب الصوت الساري ليندمج دماً في العروق مع هذه السيمفونية. هي حالة انجذاب خاصة يندر أن تتأتّى من مغنٍ آخر، لو وضعنا فيروز في هذه خانة «المغنيين» كحلٍّ وسط، بيد أنّها أبدع من ذلك. وحالة الانجذاب هذه تعمل بطاقة الاسترجاع لما رشفته الروح، فيتم نثره تلقائياً مع الأنفاس وبها لينشر الحبّ والتسامح والتصالح مع الذات ومع من حولنا وما حولنا.
من «عتاب» و»يا ترى نسينا؟»، ثمّ الاطمئنان رغم الهجر «كيفَك إنت» و»يا رايح»، «شط إسكندرية»، و»إلى عاصي» وغيرها حتى نصل إلى الرَهق المستمر في «زهرة المدائن»، والتوحّش من شامٍ مفقودة هي شام سعيد عقل في «خُذني بعينيك»:
طالَتْ نَوَىً وَبَكَى مِن شَـوْقِهِ الوَتَرُ خُذنِي بِعَينَيكَ وَاغـرُبْ أيُّها القَمَرُ
لم يَبقَ في الليلِ إلا الصّوتُ مُرتَعِشاً إلّا الحَمَائِمُ، إلا الضَائِـعُ الزَّهَـرُ
لي فيكَ يا بَرَدَى عَهـدٌ أعِيـشُ بِهِ عُمري، وَيَسـرِقُني مِن حُبّهِ العُمرُ
عَهدٌ كآخرِ يومٍ في الخـريفِ بكى وصاحِباكَ عليهِ الريـحُ والمَطَـرُ
هنا التّرَاباتُ مِن طِيبٍ ومِن طَرَبٍ وَأينَ في غَيرِ شامٍ يُطرَبُ الحَجَرُ؟
وهل تكفي هذه الوريقات لسرد سنواتٍ ضوئية بمعناها الحقيقي، اختُزلت في هذه الثمانين؟ التي «ربضت على صدر الزمان وأوثقت كلتا يديه، فحار كيف ينالها؟»
«بعد بكّير»، على امتداد أعمارنا وبعد أن ذهب الأزهى من الأيام، فيروز حاضرة في الفرح وفي الحزن النبيل، وفي تفاصيل الحياة العادية. وبحجم الأحداث صغيرها وكبيرها يمكن أن يكون صوتها رفيقاً، للتسرية والتطريب والتأمل.