الطيب مصطفى

لكم ظلمت غندور يا عطاف


عجبت لابننا عطاف عبد الوهاب .. الصحفي المبادر والموهوب – رغم غرابة أطواره في بعض الأحيان – ودهشت حين طالب عبر (الصيحة) برحيل أعظم وزراء الحكومة الحالية وصدقوني أنني ما كنت سأعلق لو قال عطاف ما قال عن أي وزير آخر غير غندور سيما وأن كل الحجج التي ساقها لم تسعفه بقدر ما أبانت عوار منطقه وخطل تفكيره بل إنها كانت حجة عليه لا له وسلاحاً ماضياً أجهز على رأيه وأرداه صريعاً!
كان أول انطباع خرجت به بعد شهر تقريباً من تولي غندور ملف التفاوض مع قطاع الشمال أننا بإزاء مفاوض مختلف لم يتكرر منذ أن غادر د. غازي صلاح الدين موقعه كمستشار للرئيس معني بالتفاوض مع الحركة الشعبية، وكنت أكثر من كتب منتقداً كل من تعاقبوا على التفاوض الذي تسبب في كارثة نيفاشا ثم الفترة الانتقالية ثم الفترة التي تولى فيها أولاد نيفاشا مفاوضات أديس أبابا بما فيها كارثتا اتفاقيتي نافع عقار والحريات الأربع اللتين سلقناهما بألسنة حداد، وقلنا فيهما أكثر مما قال مالك في الخمر.
ذلك ما دعاني لأن انظر بعين الشك والريبة لرجل لم نعهد عليه معرفة بفنون التفاوض سيما وقد عرفناه رجلاً خلوقاً حلو المعشر، وهو ما جعلني أرجح أن يكون حمامة (منبطحة) مهيضة الجناح منزوعة الريش شبيهة بتلك التي لطالما فقعت مرارتنا وفرت أكبادنا خلال المفاوضات السابقة كما جعلني أتخوف من قدرته على مواجهة صقور الحركة الشعبية وشياطينها اللئام ولذلك عاجلته بمقالات تحذيرية بعنوان (حذار يا غندور) خوفاً من أن يسير في درب من سماهم الفريق مهدي بابو نمر بعصافير الخريف!
صدقوني إنني فوجئت بصقر كاسر – رغم أنه يتزيأ بلبوس الحمام – ويتحلى بعبقرية تفاوضية مدهشة.
بعد أن أمسك بملف التفاوض الذي كنت أتابعه بشكل يومي لم يحدث أن شعرت بخوف من موقف مرتخٍ من جانب الحكومة قرأت عنه وكتبت معلقاً ومحذراً إلا وعاجلني باتصال هاتفي يشرح ويبين أنه لا مساس بالثوابت التي أوردنا النكوص عنها في السابق موارد الهلاك، فقد استطاع غندور بأسلوب السهل الممتنع إدخال الرويبضة عرمان ورهطه في جحور ضيقة واستطاع أن يصحح كثيراً من أخطاء جولات التفاوض السابقة، بل إن الرجل استطاع بحنكة ومهارة أن يكسب جانب الوسيط الأفريقي ثابو أمبيكي.
لعل ذلك ما كشف مهارات الرجل التي
كانت مدفونة في دهاليز العمل النقابي الذي استهلك كل جهده طوال السنوات الماضية وحرم العمل التنفيذي من مهاراته المخفية.
قبل أن أستعرض ما قاله عطاف عن غندور أود أن أشير إلى العطاء الثر للرجل في الحوار الوطني، فقد استطاع أن يقود الطرف الحكومي في آلية السبعتين لوضع خارطة الطريق بالتوافق مع المعارضة ولا أتردد في أن أؤكد أن خارطة الطريق تعتبر من أهم الوثائق التاريخية الجديرة بأن تحدث تحولاً هائلاً في مسار السياسة السودانية ومستقبل السودان إن تم الالتزام بها وخرج الفرقاء خاصة الحكومة (المكنكشة) من ضيق الأطماع الشخصية الصغيرة إلى سعة المطلوبات الوطنية الكبرى.
عجبت أن عطاف أتى بخطرفات غريبة قال فيها إن لقاء غندور بأوباما لم يرفع العقوبات عن السودان! معقول يا عطاف؟! وهل كنت تتوقع أن يحدث ذلك اللقاء ما أحدثته عصا سيدنا موسى في التو واللحظة؟! هل تظن أن العلاقات الخارجية تعالج بهذه البساطة بعيداً عن المؤسسات بما فيها وزارة الخارجية الأمريكية والكونجرس وكثير من المؤسسات التي تشارك في اتخاذ القرار؟!
عجيب أن يتخيل عطاف أن يطبّع غندور العلاقة مع أمريكا في يوم أو أيام أو أشهر رغم علمه أن السياسة الخارجية لا تنجز وتحقق نتائج وتحرز (أقوان) إلا في مناخ سياسي مواتٍ ولا تملك وزارة الخارجية لوحدها سلطة إصلاح مناخ السودان وأجوائه الملبدة بالغيوم والأعاصير إنما ينبغي أن تتضافر جهود كثيرة وأفعال على الأرض تستجيب لمطلوبات وطنية هي التي يفترض أن تناقش في طاولة الحوار الوطني مع المعارضة وفي مائدة التفاوض مع الحركات الحاملة للسلاح، فقضايا الحرب في المنطقتين وفي دارفور مثلاً ذات تأثير كبير على علاقاتنا الخارجية بينما أمرها في أيدٍ أخرى غير وزارة الخارجية فكيف يُسأل غندور عن شيء لا يدخل في نطاق اختصاصاته، وكيف يا عطاف تطلب منه أن يسهم في وقف الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق! ما هي علاقة غندور بهذه المشكلات التي انعقدت لها آليات إقليمية ودولية في الدوحة وأديس أبابا وتدخلت فيها قوى دولية قبل أن يُنصب غندور في منصبه بسنوات طوال؟!
وكتب عطاف عن أسفار غندور ! سبحان الله وهل كان من تقلدوا المنصب أقل منه سفراً، ثم من يسافر إذا لم يسافر وزير الخارجية لتمثيل السودان في المحافل الدولية التي تقتضي وجوده، وهل يغيب السودان عن تلك المحافل الدولية حتى يوفر (شوية) الدولارات التي تخسرها الخزانة أم إن غيابه أفدح أثرًا وأعظم خطرًا، وهل (نحن ناقصين) عزلة لنزيد منها ونفاقم من أوجاع بلادنا التي تحتاج إلى تطبيع علاقتها مع المجتمع الدولي بالمزيد من التواصل لا الانعزال؟!
لو قلت يا عطاف إن كثيراً من أسفار الوزارات الأخرى والتي ترهق كاهل الدولة لا تفيد سيما وأن هناك سفارات للسودان يمكن أن تمثل البلاد في كثير من المناسبات لكان ذلك مقبولاً أما أن يغيب وزير الخارجية ليوفر (شوية) دولارات فهو ما لم يسبقك عليه أحد من العالمين!
المهم أن اعتراضنا ومعارضتنا للحكومة ولكثير من سياساتها ولمظاهر الفساد التي تضعف أداء الدولة وتعطل مسيرتها لا تمنعنا من أن نقول لمن يحسن أحسنت فقد آلينا على أنفسنا أن ندور مع الحق حيث دار.