الصادق الرزيقي

وقائع موت مُعلن ..!


> لربما تكون صحيفة «السياسي» التي أعلن ناشرها ورئيس تحريرها الأستاذ مصطفى أبو العزائم توقفها المؤلم عن الصدور، هي القربان الأول الذي يذبح على نصب البقاء المستحيل للصحافة السودانية بهذه الكيفية المفجعة، ستكون هناك ذبائح أخرى دون أدنى شك، وقرابين تُقدم فداءً لما يتبقى من صحف تنقر أسنانها الذهبية في خوف وفزع، قبل أن تموت هي الأخرى، والنصال الحادة حولها لطخها الدم القاني المسفوح كما الأحبار السائلة ..!
> لقد نبهنا مراراً..إن الصحافة السودانية بكل عراقتها وتاريخها ودورها الوطني الكبير، تقف على حافة الفناء، وتركض مسرعة وتقفز منحدرة إلى قاع الهاوية. هذه الأيقونة الجميلة في الحياة، باتت مصفرة العينين، مجروحة الخدين، ترتدي أثواب حدادها، وهي ترى الحياة حولها تضيق مساربها، فتضييق شرايينها وتفقد مناعتها وقدرتها على الصمود، فجميع الصحف في انتظار رصاصة الرحمة، كتلك التي أطلقها مجبوراً.. محزوناً .. مقهوراً.. الأستاذ مصطفى أبو العزائم على وليدته صحيفة(السياسي)، وقد عاشها حلماً طوال حياته، لكنه لم يلبث أن اضطرته الظروف وقهر الدّين الى وأدها فدفنها بكلتا يديه وأهال فيها التراب وهو ينظر لابتسامتها الغامضة ثم نحيبها ووجيب قلبها الدافق، حتى وسدها رمسها ثم شهق هو نفسه شهقة ضاعت في سراديب الفراغ..
> أن تموت صحيفة بهذه الطريقة، لهي تراجيديا دامعة. فالصحيفة التي تموت واقفة كالنخلة وكشجرة الدليب المثمرة، هي وصمة عار أكثر من كونها، عثرات في طريق صاحبة الجلالة وفقدان أمل، وما أضيق العيش الذي لا يتيح لصحيفة أن تزهر بعد تبرعم أكمامها..
> وأن تتوقف صحيفة بمحض إرادة صاحبها لعدم مقدرته على توفير مقومات العيش الكريم لها في زمن نتحاج فيه لكل صوت وكلمة وحرف، لهو أكبر دليل على أن الحياة تفقد قيمتها الحقيقية، فأدوات الرأي والخبر والتعليق والتوجيه عندما تتحول إلى رماد، بينما القشور في زماننا تتوامض وتتلامع، فذلك يعني شيئاً واحداً فقط، إننا في زمن العلامات الكبيرة والغباء كما يقول عبدالقادر الكتيابي، فكيف تمضي سفينة الحياة ومجداف الصحافة تقضمه الأيام قضمة، فقضمة حتى يختفي، والشراع العريض يتمزق فلا تحركه رياح ولا تزلق على صفحات ماء الحياة سفينتها الراسية.
> من حقنا كصحافيين أن نذرف دموعنا على صحيفة «السياسي»، التي كانت مولوداً فتياً، شمَّر لها مصطفى أبو العزائم ساعديه، جمع كل خبرته الطويلة وتجربته المتنوعة المتعددة من أجل أن تكون صحيفته باقية بين أخواتها ركيزة من ركائز التطور السياسي والإعلامي في بلادنا، وكان يرى في الأفق القريب والبعيد راياتها عالية تخفق في سماء المعرفة والفكر والرأي، ولم يكُ يدري أن العمر القصير هو عمر الشهب التي تتوهج بضوء كثيف قوي لامع ثم تغيب، فهاهي «السياسي» تماثل الشهب العظيمة تطلق وهجها ثم تلتحف بالرماد ..!
> العبرة ليست في توقف هذه الصحيفة حين وُئدت بأيدينا نحن كمجتمع ودولة وسلطة وتشريعات وقوانين ونظم وسياسات نقدية وعملات استيراد وكلفة إنتاج وصناعة، العبرة أن البقية تأتي ..!
> تعيش الصحافة الورقية واقعاً مزرياً وتجابه مستقبلاً مظلماً كالحاً، في كل العالم ليس في السودان وحده، فصحيفة «النيويورك تايمز» الأمريكية تراجعت بنسبة «40%» وفشل كل الخبراء ودهاقنة علم التسويق في إيجاد حلول عاجلة لاستعادة توزيعها ورفع مبيعاتها، وحالها هو حال الصحافة في الغرب ودول العالم المختلفة.
> قبل أيام كان الدكتور عبدالله الحجيلان رئيس جمعية الصحافيين السعوديين يقول لنا في اجتماعات اتحاد الصحافيين العرب بالخرطوم، إن الصحافة الورقية في الخليج تراجعت بنسبة تصل الى «50%» في المبيعات وعائدات التوزيع والإعلان، وقال طارق مؤمني نقيب الصحافييين الأردنيين ورئيس تحرير صحيفة الرأي في عمان، إنه «لا توجد حلول شافية في ما يحدث للصحف الورقية وهي بانتظار استخراج شهادات وفاتها او الموت الرحيم بعد أن دخلت مرحلة الموت السريري»..!
> وذات الشيء، قاله نقباء الصحافيين العرب عن الصحافة في مصر والمغرب والعراق والإمارات العربية وسوريا ولبنان واليمن وسلطنة عمان والبحرين والصومال وتونس وموريتانيا وفي كل مكان.. ما أقسى أن تنتظر وفاتك والجميع ينظرون إليك في غرفة الانعاش ولا يستطيعون مد يد العون أو إنقاذك!.. من يكفكف دمع صحيفة «السياسي».. ومن يواسي مصطفى أبو العزائم؟؟..