مقالات متنوعة

منى عبد الفتاح : شرخٌ في وادي النيل


يتجرّع شعبا السودان ومصر، على حدٍّ سواء، تصعيدات أجهزة دولتيهما الأمنية والإعلامية، وهو ما لم يحدث في تاريخ البلدين الشقيقين، إلّا في عهد هذين النظامين. وغنيٌّ عن الذكر أنّ موقف نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي من السودان يمثّل ثأراً عهده قريب، هو الاستقبال الاحتفائي الذي تمّ للرئيس المنتخب محمد مرسي، قبيل عزله بشهور. وكان النظام في السودان ينطلق في زيفٍ واضح من القاعدة الإسلامية الواحدة للنظامين، أو هكذا كان يصوّر للعالم الخارجي. والحقيقة أنّ تاريخ حكومة الإنقاذ أثبتت ألّا ولاء للعسكر، فعندما استولوا على السلطة، بمساعدة حسن الترابي عرّاب النظام، انقلبوا على تنظيم الجبهة الإسلامية، وسجنوا الترابي نفسه، ولحقه ما يدعونهم أبناء الترابي، أي تلامذته، وبقي الحكم باسم الدين ستاراً لتمرير سياساتٍ كثيرةٍ على الشعب في الداخل، وساتراً من الخارج، وصدّه بالتأكيد على سيادة دينية مزعومة.
ومعنى ذلك أنّه لو صبر السيسي قليلاً، فإنّ الحال لم يكن سيذهب إلى أبعد من ذلك، فالنظام في السودان، كما ليس لديه ولاء لشعاراته، ليس لديه أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون. وحسب التجربة، ليست لديه أيضاً مصالح منظورة، وفقاً لأيٍّ من المواقف التي يتخذها.
هناك سببان رئيسيان لانفجار الأوضاع، الأول أنّ نظام البشير، كما نظام السيسي، يقع عليهما حصار داخلي، يتمثّل في تململ الشعب المقهور، ويتصدّيا له بكل أنواع القمع والحجر على الحريات بشكلٍ عام، خصوصاً حرية التعبير عن الرأي. ولهذا التضييق الذي يمارسانه، تقع عليهما أصناف من الحصار الخارجي، جرّبه نظام البشير في شكل العقوبات الاقتصادية الأميركية على السودان. أمّا في مصر، فبدأ الغرب في انتقاده بصوت الرأي العام المسموع، والذي بدأ يحثّ الجهات التنفيذية، والتي تعرّضت إلى انتقاد شديد، بسبب موالاتها لنظام السيسي، لأسباب معلومة بالضرورة، وذلك بالإسراع في اتخاذ عقوبات على مصر، بسبب ممارسات النظام ضد الشعب، في أحداث كثيرة لا تقل بشاعتها عن الإبادة الجماعية في دارفور، والتي جعلت البشير ملاحقاً من محكمة الجنايات الدولية.
السبب الآخر أنّ التصعيد الإعلامي الرسمي أضرّ بقضايا حيوية ومصيرية، مثل قضية سدّ النهضة ومثلث حلايب وشلاتين. ولم يكن ليفترض أن تكون هذه القضايا محلّ نزاع بين البلدين، وبما أنّه حدث بفعل النظامين، فإنّ الضحايا هم السودانيون الذين توجّه إليهم رجال أمن السيسي، ولم يفرغوا من وليمتهم التعذيبية لمواطنيهم بعد.
“الحديث عن الوطن، وعن قطعة مهدّدة فيه لأيّ من الجانبين، مصر أو السودان، هي إحدى مستفزات الوعي، ومظهر من مظاهر التعطيل الكلي للحواس الأخرى، أي حديث كهذا كفيلٌ بإيقاد نار الغضب الشعبي”
لم يكن السودانيون في انتظار اتفاقية الحريات الأربع الموقعة بين البلدين، والتي تضمن حرياتالإقامة والعمل والتملك والتنقل، إحياءً لروح التكامل بين البلدين. وليس خافياً أنّ مصر، قبل هذه الاتفاقية، وفي كل الحكومات التي تعاقبت عليها، كانت قبلة السودانيين للسياحة والعلاج والتعليم وغيرها. أما اللاجئون فهم الأكثر تضرراً، سواء الذين ينتظرون على أبواب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في القاهرة، بغرض الهجرة إلى أوروبا وأميركا، أو الذين ضاق بهم سبيل الخروج أو الرجوع، فهؤلاء يسومهم نظام السيسي سوء العذاب، وعلى نهج نظام البشير الذي هربوا منه، مع مجرى النيل صوب الشمال.
وتكمن خطورة حدة الخطاب الإعلامي الرسمي وتطرّفه في كلا البلدين، ووصوله إلى تعبئة الشارع القابل للاشتعال والساخط، في الأساس، من غلاء المعيشة وكبت الحريات، في إحداث هدف آخر، بغرض إلهائه، بواسطة مواقف تلعب على المشاعر الوطنية. ومما ساهم في علو الأصوات الحادة، تناسل وسائل إعلام إضافية، تتبع أغلبيتها القلب النابض للسلطة، تقتات من حالة الهرج الجماهيري الذي صنعته، لصرف أنظار الشعب عن قضايا المعيشة. والحديث، هنا، عن عامة الشعب البسطاء في البلدين، أمّا النخبة في مصر فهي مدجّنة ومحلّقة في فضاء التنظير لما فيه مصلحة السلطة، أما المعارضة في السودان فسائحةٌ في فضاءات النضال، من دون أرض الواقع.
هذا الشرخ الذي نسجه نظام البشير مأخوذٌ بأحداث لعب فيها نظام السيسي دوراً كبيراً، وما يحققه لكليهما أنّه يعمل على توجيه الرأي العام في البلدين لقضية، يصوّرها مقياساً للوطنية، يكون المتفاعل معها وطنياً غيوراً والمتهاون دونها عميلاً. نعم، في الأمر خبثٌ واضح، فالحديث عن الوطن، وعن قطعة مهدّدة فيه لأيّ من الجانبين، مصر أو السودان، هي إحدى مستفزات الوعي، ومظهر من مظاهر التعطيل الكلي للحواس الأخرى، أي حديث كهذا كفيلٌ بإيقاد نار الغضب الشعبي.
في الواقع، هذه القضايا على اختلافها لا يُستحسن حلّها في ظلّ حكومتي البشير والسيسي، لأنّ النظامين الحاليين غير جديرين بالحل، أيّا كان شكله، فالأول فرّط في جزءٍ من البلاد بانفصال الجنوب، والثاني فرّط في سيناء. وأي محاولات للحلّ هي جراحة قاسية، تتمّ على جسد وادي النيل، تشوّه النفوس وتؤذي الأرواح المحبّة. وما حدث بادرة فقط، هي أنّ مجرد فتح هذه الملفات بواسطة النظامين جرٌّ متعمّد لمشكلات أكبر، لن يخسر فيها غير الشعبين بعضهما. وليس هناك من سبيل لحلّ حكيم يحقن الدماء غير تغيير النظامين، وإلى أن يتم ذلك، ليس هناك غير مضغ علقم تصاريف السياسة التي تخطّط للتفريق بين روح واحدة في جسدي شمال الوادي وجنوبه.


تعليق واحد